logo
«فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ»!!
بقلم : سهيل كيوان ... 29.02.2024

«عندما يقعُ الثورُ تكثرُ سكاكينه»، علّمتنا أمثال الأجداد الكثير من حِكم الحياة، ومصدرها تجارب الناس المتراكمة التي لا تنضب، فالجميع يحذرُ من مواجهة القوي ويتجنّبه، بل لا يخجل من الهرب من وجهه، ولكن ما أن يقع حتى تكثر السكاكين للإسهام في ذبحه وتقطيعه.
لا نعرف كيف نصنّف المساعدة الهاشمية إلى قطاع غزّة المحتل، فالبعض اعتبرها نخوةً وشهامةً عربية قام بها الملك عبد الله وسلاح الجو الأردني، وقد سبق ومارس هذه الإنزالات الجوّية في المستشفى الأردني في قطاع غزّة، والبعض رأى في طريقة تنفيذها عاراً كبيراً، حتى إنّ هذا البعض لم يستطع النظر إلى الصورة لشدة ما اعتراه من شعور بالعار، خصوصاً أنّ هذا الإنزال الجوي يجري بالتنسيق مع نظام نتنياهو الفاشي، وبإشراف وتنسيق فرنسي، ومن فوق الجميع الرّعاية والتوجيه الأمريكي، لأهداف سياسية، لا علاقة لها بالإنسانية، فالإنسانية معطلة حتى تأذن المصلحة الإعلامية بحركة ما لذر الرمال والرماد في عيون الشعوب.
جرى إسقاط الكثير من هذه المساعدات في مياه البحر، ويحتاج من يطمحون على الاستفادة منها إلى قوارب، بدورها يجب أن تحظى بموافقة الاحتلال، أو إلى أن يكونوا غطّاسين ومحترفي سباحة لالتقاطها، أو انتظار موج البحر حتى يقذفها إلى الشاطئ، طبعاً يحتاجون أوّلا إلى استراحة من القصف العشوائي البري والبحري والجوّي، وتجنّب وجود ضابط يحتفي بخطبته أو بيوم ميلاد ابنته بقصف حشد من المدنيين، في الوقت الذي يقف فيه عشرات الآلاف من الجائعين على شاطئ البحر بانتظار رُزمة المساعدة الإنسانية السّياسية، مثل طيور جائعة منذ أيام عاصفة، تنتظر من يرُش الحبوب في طريقها، وقد تتعثر بصياد ماكر يقصد اصطيادها وذبحها.
**لا كرامة لعربيٍ ولا لأيّ إنسان حُرّ في أي بقعة في هذا الكوكب، ما دام الاحتلال واضطهاد الإنسان قائماً، وما دام هناك شعبٌ يهانُ ويقتل ويجري تجويعه بهذه الهمجية والدناءة
ارتكب الاحتلال أبشع المذابح ضد المدنيين، ومنذ البداية حتى اليوم لفّت الأنظمة العربية ودارت ودوّرَت مواقف هلامية لتمرير الأيام والشهور، عسى ولعلّ أن يتمكّن الاحتلال من حسم المعركة بسرعة، ويخلّصها ويخلص جميع «المُعتدلين» من الإحراج أمام شعوبهم وأمام العالم وأمام أنفسهم، ولكنّ المقاومة واصلت صمودها الأسطوري ليتواصل الإحراج والكشف عن حقيقة هذه الأنظمة التي لا تقل رغبة في التخلص من المقاومة عن الاحتلال، وخصوصاً تلك القادرة على التأثير على الموقف بحكم موقعها الجغرافي والاتفاقات الموقّعة مع دولة الاحتلال مثل مصر والأردن. توسّلت الأنظمة العربية نتنياهو مباشرة أو بوساطة أمريكية التّخفيف من قتل المدنيين، حفظاً لماء وجوهها أمام شعوبها، لكن ما يهمُّ نتنياهو هو أن يعود بإنجاز التّهجير وقتل أكبر عددٍ من الفلسطينيين مسلحين وغير مسلّحين أطفالاً وبالغين. لن يأبه المحاصَر الذي يتهدّده الموت جوعاً من أين وكيف يأتيه الطّعام، من البحر أم من تحت أنقاض بيت مهدوم، من سيارة أونروا، أو من جمعية إنسانية يجرُّ عربتها حمار، لن يسأل هل هي جمعية علمانية أو دينية أو مُلحدة، نسوية أو ذكورية، وسوف يكون سعيداً وشاكراً إذا جاءه العون من يد صديق أو أخ بصورة محترمة، تحفظ له كرامته. يسعى الاحتلال لإذلال الشّعب الذي يحتله، وإذا استطاع، فهو يسعى إلى ربط جُرعة مائه ولقمة خبزه بيده، كي يمعن في تقييد قدراته على النضال والتّحرر. المحاصر أو الأسير يضطر إلى أن يتلقى طعامه من يد سجّانه، وقد يرمي السّجان الطعام بصورة جلفة وبهيمية، ولكن الطّبيعة البشرية وغريزة البقاء تدفع الناس إلى التشبُّث في الحياة، وأحياناً في مواقف تمسُّ كبرياءهم، وهو ما يجري في قطاع غزة حالياً، رغم أن أكثر الناس إباءً وشموخاً وكرامة وكبرياء هم أهل قطاع غزة. في كثير من الأحيان يضطرُ الإنسان إلى شُربِ الماء الملوّث كي ينقذ نفسه من الموت عَطشاً، حتى لو كانت الديدان والأفاعي تسبحُ فيه، فهو يزيحها جانباً ويشرب، وقد يضع منديلا على وجه الماء مثل طرف كوفية أو منديل لتصفية الماء من الغبار والقش والطفيليات ويشرب، وبهذا يقول الشاعر»إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى – ظمِئت وأي النّاسِ تصفو مشاربه». وقد منح الرَّحمن الرحيم رخصة لتناول المحرّمات في حالات الاضطرار «فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه»، بل إنّ رحمة الله وسِعت ذلك الذي اضطر أن يكفر تحت التعذيب، وهو عمّار بن ياسر الذي جاء إلى الرسول باكياً، لأنّه أرغم على الكُفر وعلى شتم الرسول تحت وطأة التعذيب، فنزلت فيه الآية الكريمة «من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبُه مطمئِنٌ بالإيمان، ولكن من شرَح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله وعذاب أليم».
قد يضطر الأسير أن يكذب لتجنّب الموت تحت التعذيب، ومنهم من يشتم المقاومة ويدينها تحت ضغط الإرهاب والتعذيب النفسي والجسدي، وحدث ويحدث أن يتبرّأ البعض من مواقفه وقناعاته تحت وطأة التعذيب، وتؤخذ منه كاعترافات. قد يشتم المجاهدين، ويشكر الأنظمة المتواطئة مع الاحتلال على «شهامتها ونخوتها» لتقديمها رزمة مساعدة ألقتها في البحر بتنسيق مع الاحتلال، أو رزمة قد يحتاج إلى سكب دمه وروحه وكرامته الشخصية كي يطالها بين يديه، ثم يدعو للقائد ونظامه وبلده أجمل الدعاء بالشّكر والثناء على المواقف القومية والعروبية والإيمانية، بعد أن بات الجوع فاتحاً أشداقه لابتلاع أطفاله.
لا بأس يا أهالي قطاع غزة، فلا عار إلا على أنظمة العار، التي خملِت جلودها وفقدت الشعور بالحياء، بل باتت تشعر بأن كرامة أهالي قطاع غزّة وبطولاتهم تهدّدهم وتفضح حقيقتهم، لأنّهم يخشون هذا النزق وهذا الطموح الاستشهادي إلى الحرية، ولهذا يحاربون كل حرّ في الوطن العربي مباشرة وغير مباشرة، بخبث ودهاء أحياناً وبغباء في أحيانٍ أخرى! الجوع أقسى سلاح ممكن أن يواجهه الكائن الحيّ، تُروّض السِّباع بالتجويع، ثم يقدّم لها الطعام كهدية أو منحة تنقذها، حتى تعتاد على اليد التي تطعمها، وتشعر بأنّها مَدينة لها بحياتها. هذا يذكّر بقصة «النمور في اليوم العاشر» لزكريا تامر، النّمور الشرسة التي اضطرت إلى تناول العشب تحت وطأة التجويع. تريد الأنظمة القول للشعوب بأنّها مدينة لها بحياتها، في الوقت الذي تنسّق فيه مع الجلاد والمحتل. لقد جرى إذلال النمور والأسود بالتّجويع، ولكن هذا لا يعطي الأنظمة أوسمة البطولة، فهي شريكة الاحتلال في إذلال الشعوب العربية كلها بلا استثناء بما فيها شعب فلسطين. لا كرامة لعربيٍ ولا لأيّ إنسان حُرّ في أي بقعة في هذا الكوكب، ما دام الاحتلال واضطهاد الإنسان قائماً في أيِّ مكان كان، وما دام هنالك شعبٌ يهانُ ويقتل ويجري تجويعه بهذه الهمجية والدناءة والخِسّة والحقارة.


www.deyaralnagab.com