logo
أرواح كليمنجارو لإبراهيم نصر الله: فلسطين… وروح الكتابة الجديدة!!
بقلم : رامي أبو شهاب* ... 23.05.2016

تستدعي رواية إبراهيم نصر الله «أرواح كليمنجارو» الصادرة عن دار بلومز بري- قطر 2015 بطريقة أو بأخرى قصة قصيرة للكاتب الأمريكي أرنست همنغواي، وهكذا نقع بين رؤيتين، ما يتطلب اجتراح مقاربة بطريقة أو بأخرى بين رواية إبراهيم نصر الله الكبيرة نسبياً، وقصة همنغواي القصيرة نسبياً، غير أن الثانية اقتصرت على قلق ذاتي، إذ لم تلامس شخصيته الرئيسة «هاري» قمة الجبل، إنما بقي في حدوده الدنيا، غير أن ثمة في منتصف هذه الثنائيات شيئاً واحداً، ونعني الإرادة، أو قوة الإرادة التي ميّزت رواية نصر الله، وبذلك فإن «أرواح كليمنجارو» تجاوزت هواجس الذات في «ثلوج كليمنجارو» لهمنغواي، كما نقرأ تبايناً دلالياً على مستوى العنوان بين الروايتين، حيث الإحالة إلى ثنائية الإيجاب والسلب، أو الحياة والموت، أي الأرواح مقابل الثلج، في حين يتجسد الثبات عبر اسم الجبل كليمنجارو حيث كان الانحياز للذوات التي انتصرت في رواية نصر الله، بينما في قصة همنغواي فالانحياز كان للجبل.
يتطلب الوصول إلى قمة كليمنجارو أن يتخفف المرء من الماضي، وكافة الأشياء العالقة في عالمه، كمخاوفه وهواجسه، والألم، والغضب، والحقد، والكراهية، والخيانة، والندم، والأحلام، فكل منا لديه قمته الخاصة، وكي يصل إليها ينبغي أن يتخلص من المخلفات الشّعورية التي تعوق تقدمه، هي الأشياء المعلقة غير المنجزة التي ينبغي لشخوص أرواح كليمنجارو أن تتجاوزها لتعبر إلى ذاتها، ومن لم يتجاوزها فسيبقى في قاع الجبل كما كان من هاري في قصة همنغواي الذي مات على أعتاب الجبل، وكما جبريل في رواية إبراهيم نصر الله الذي خذل الجبل، في حين أن هاري في رواية إبراهيم نصر الله وصل إلى القمة، في حين اعتذر الطفل غسان عن رحلة الصعود كي يحافظ على قمته التي تتمثل ببيته في الخليل حيث بقي هناك يحرسه خوفاً من مصادرة الإسرائيليين له.
تكمن جمالية العمل من حيث قدرته على بذل كتابة عربية، يمكن أن أنعتها بالمغايرة عن السائد في المشهد الروائي المعاصر، أو بعبارة أخرى رواية «روح العالم الجديد». لا شك في أن رواية «أرواح كليمنجارو»، وعلى أقل تقدير تمثل نموذجاً سردياً، وهنا أعني مستوى الخطاب حيث تتجاوز «أرواح كليمنجارو» كتابة إبراهيم نصر الله عينها، كما أيضاً النسق السردي للرواية العربية الحافلة بقيم محدودة على مستوى التوجهات والمنظورات، فإبراهيم نصر الله أدرك التجربة، وتمثيلها في نسيج عمل يستجيب لمتطلبات الخطاب السردي القائم على منظور جديد، إنه يتوجه إلى قارئ هذا الزمن، فليس ثمة حاجة للاستعانة بأيديولوجيات وأقوال كبرى في الرواية، كما ليس ثمة حاجة لعالم سردي متشابك، ولغة متعالية، كما ليس ثمة حاجة أيضاً لتضمين ادعاءات كاتب يمارس دور الوصاية البطريركية على أذهان قرائه، ويغرق في خطاب شوفيني سردي يتصل في جزء منه بماضيه، وتجربته الخاصة، كما ليس ثمة استعارة لحوائج الكتابات السّحرية ما فوق الواقعيّة، واستجداء الماضي الثوري، وحكايات المقاومة وبيروت والمخيم واليسار، وغير ذلك من مستهلكات الرّواية العربية عامة، والفلسطينية خاصة، فنحن لا نقع بين ثنايا هذا العمل على ظلال المؤلف، على الرغم من اختبار تجربة صعود الجبل على مستوى المرجعية الواقعية لرحلة اصطحب فيها طفلين فلسطينيين مع عدد من المتطوعين لصعود الجبل، لقد توارى عن العمل، ولكنه حضر بروحه. فالرواية تتكئ على المنظور السردي للراوي العليم الكلي، حيث تتخفف من هيمنة الذات الساردة المشاركة في الحدث، وهنا يحسب لإبراهيم عدم التورط، والوقوع في الفخ السردي، فقد تحرر من تأثيرات الذات الكاتبة، كما الذات الساردة التي بدت في موقع محايد.
تنفتح الرواية على رحلة في ألاسكا حيث تطرأ فكرة ما على ذهن «ريما» إحدى محترفات التسلق، ولكننا سرعان ما ننتقل إلى نابلس، حيث نورة الفتاة الفلسطينية التي تطرح تحديها أمام والديها، وبين ثنايا الحوار تتساءل الأم هل هنالك شخص عاقل يترك بيته وسريره كي يصعد جبلاً، ويتشرد في الخيام؟ فالأم كما معظم الفلسطينيين يعرفون الخيام، والتشرد، غير أن نورة كانت تستجيب لحكاية الأم التي كلما سألتها نورة عن رجلها تجيب أمها بأن رجلها على الجبل، وسوف تحضرها لها، وقد حان الوقت لنورة كي تصعد الجبل، وتهزم شيئا ما في داخلها، إنه طرح بسيط، وغير مألوف في الرواية العربية التي تسعى إلى مقاربة تعنى فقط بالأسئلة الكبرى على مستوى التاريخ، الأيديولوجية، وتتجاهل الإنسان الذي لا يشغل ذهنية المتخيل العربي إلا بوصفه ضمن تمثيلات الشخص خارج المألوف، أو الثائر، أو نماذج البطل الإشكالي، والمغامر، والمثقف، والثوري، والعاشق، وما إلى ذلك.
تتسم رواية «أرواح كليمنجارو» ببساطة الأيديولوجية، وعمقها في آن واحد، كما نسق المعالجة السّردية، فثمة مقصديّة تتمثل في أن الذّات قادرة على أن تعيد إنتاج ذاتها، وهذا لا ينسحب على الفلسطيني فحسب، ونعني سردياً نورة، وغسان، ويوسف، إنما يطال كافة الشخوص التي تتقاسم بنية العمل، كما الإنسان بتكوينه المطلق والمثالي أينما كان. لا شك بأن صعود قمة كليمنجارو بوصفها تجربة ذاتية للمتطوعين غير أنه قد جاء من أجل هؤلاء الأطفال الذين فقدوا أجزاء من أجسادهم، نتيجة الممارسات الإسرائيلية، فالفريق الذي صحب هؤلاء الأطفال حمل معه في الطريق إلى الجبل جزءاً من عمق إشكالياته الخاصة، وعالمه، كما ماضيه غير المنجز، خيبات وآلاما، ولكنهم اكتشفوا، وهم في طريقهم إلى القمة إنسانيتهم، بأن ثمة شيء خلف ذواتنا، وهو ما يجعل للحياة قيمة، أو هدفاً ما، ولهذا ينبغي أن نتجاوز ما خلفنا، ونتطلع إلى الأمام، وهذا ما يميز هذا الرواية، كونها تتطلع إلى أفق آخر، وهنا نستدعي شخصية هاري في قصة همنغواي الذي حمل ماضيه، وندمه، إذ ترك أموراً عالقة، ولهذا كان مصيره أن يتلاشى في قاع الجبل، وبهذا تنتج رواية «أرواح كليمنجارو» نموذجاً آخر، حيث تتمكن كل شخصية من شخصيات العمل أن تستجيب لروح الجبل، لتعرف ما الذي تريده منها، لتخرج من مخاض ماضيها، حيث يتخلص هؤلاء الأطفال من هواجسهم، ويهزمون ضعفهم، وأعضاءهم المبتورة، ولكن الأهم هزيمة من حاولوا كسرهم.
تتكئ الرواية على تقنية الاسترجاع، وتيار الوعي، والحوار الداخلي، حيث نقرأ ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي في فضاءات الزمن والمكان المتصلة بكل من يوسف ونورة وغسان في لحظات التماس بين واقع الجبل، والماضي، لقد فقد كل واحد من هؤلاء الأطفال أجزاء من جسده الذي تشوه نظراً للبتر، غير أن أرواحهم ينبغي أن تبقى مكتملة، إنها ثنائية تحفل بالاكتمال مقابل النقص، جمال الإنسانية مقابل غطرسة الآخر، لقد اكتملت تلك الأرواح عندما عانقت قمة الجبل، إنها مقاومة لكل ما هو غير إنساني… مجسداً بإسرائيل، ولكن بدون ضجيج سردي، إنها مقاومة بعيدة عن أنساق الخطابات الثورية الزائفة، فثمة هنا أرواح لأطفال تهزم إسرائيل، وآلة القتل، ومصادرة البيوت، والإهانة، والذل، وغير ذلك، وهذا يتحقق عبر صعود جبل في دولة تنزانيا- أول دولة أفريقية تنال استقلالها من الاستعمار- هناك على قمة الجبل رُفع علم فلسطين، إنها رسالة بسيطة، تحتفي بالواقعية والجمال، وبقدر من المثالية المعقولة، لقد تمكنت نورة من الوصول إلى قمة الجبل، ومن أن ترسل صورتها على القمة إلى ذلك الجندي الإسرائيلي الذي تحداها واحتقر إرادتها. في ظني أن هذا النسق من الخطابات ربما لا يكون الأقدر على هزيمة لا إسرائيل فحسب إنما هزيمة كل قبح العالم. لقد سعت «أرواح كليمنجارو» عبر الفيض الإنساني، إلى الشروع في نسق من تحولات الكتابة، إذ تنهض على «فيض قوة الإنسانية» عبر الخطاب، كما التعبير عن ذلك من خلال شخصيات اجتمعت لمساندة هؤلاء الأطفال، من أفريقيا، وفلسطين، الأردن، ولبنان، ومصر، وأمريكا، والفلبين، وغيرها، ولكل واحد من هذه الذوات دافعه الخاص لصعود الجبل، ولقاء روحه، والتخلص مما يثقل عليه من هواجس، ومخاوف كإميل الذي تطارده ذكرى مقتل جاره الفلسطيني، وأروى التي تعيش في الشتات، وسهام، وصوول، وجيسكا، وهاري، وسوسن، وريما، وغيرهم.
مصدر التوصيف الجمالي لهذا العمل يتأتى من بنياته التعبيرية على مستوى التقنيات السردية التي أتت موفقة التوظيف، ولاسيما أن العمل قد اتكأعلى قيم وصفية مقننة، ومدروسة بعناية، كما الحدث المختزل في نسق تصاعدي، ونعني صعود الجبل، فعلى الرغم من محدودية الحبكة السردية، حيث لا صراعات تطفو سوى ذاك الصراع مع غرور الجبل، كما الذات المرتهنة إلى هوامشها وماضيها، وهو ما يعد نموذجاً للصراع الداخلي، كما ليس ثمة مصادر لتفعيل الحبكة، وتدافع أحداث الرواية، وفضاء شخوصها، كما لا توجد توصيفات لرسم حدود المكان، ومتعلقاته، بقدر ما توجد لغة قادرة على تعميق الإحساس بالمكان والزمن، من خلال مفردات تتلمس الأحاسيس المعنية بالبرودة، ورائحة القهوة، وهدوء الجبل، والعواصف، والثلج، واللون الأبيض، وإيقاع الخطوات والأنفاس. ومع أن هذا الروح السّردية محاصرة بروح الجبل، أو ذلك المكان غير الطافح بالمؤثرات على حركة الشخصيات، غير أن السرد دفعها إلى أن تكون رحبة بطريقة ما، وهذا ربما جاء نتيجة اللغة بإيقاعها الهادئ، وصمتها في بعض الأحيان، إذ سرعان ما يتحول القارئ إلى محاكاة إيقاع صعود الجبل على مستوى التلقي، حيث تتحول القراءة إلى محطات توازي ما تم إنجازه من صعود الجبل، وبذلك يتحول القارئ إلى الاتصال الفيزيائي بالعمل، كما المعنوي عبر الارتهان إلى معنى التّحدي، مما يعني العدوى السردية التي انتقلت إلى ذات القارئ، الذي شرع في نبش ماضيه بحثاً عن مخلفات الذاكرة، وهواجسها لتتخفف منها، ومن هنا تتجلى جمالية الرواية، ورحابتها بوصفها تجسيداً للإيقاع المسرحي، كما السينمائي على حد سواء، ما يدفعنا إلى التسليم بأن الرواية تمثل خطوة متقدمة في تشكيل أنساق غير مطروقة، أو شائعة في الكتابة السردية العربية.
في «أرواح كليمنجارو» ثمة قدرة على رسم فضاء تشابكي من الذوات، كما العالم الذي نعيشه، لا عبر حبكات مصطنعة بسذاجة، تنهض على شخصية تحضر في فضاء الآخر، إنما من خلال ذوات تجتمع في فضاء لا يرتهن إلى واقعها، أو ماضيها، إنه فضاء متحرر، وجديد، وهنا تكمن قدرة الراوي على تجميع الذوات وبلورتها ضمن حبكة سردية قادرة على أن تتسم بالصلابة، وعدم الانهيار على الرغم من بساطتها، فالجبل، ورحلة الصعود إلى القمة بنسقها المتعالي كان الحدث الرئيس، مع أن القمة لم تمارس شيئا سوى الصمت، غــــير أنها تشــــتغل عبر نسق من التحفيز الداخلي للأرواح التي تسعى إلى الاتصال بروح الجبل، والانصهار فيه، في حين أن الأرواح المهزومة، المرتهنة إلى واقعها، أو إلى عالمها العالق، فإنها سترتد إلى قاع الجبل، وستهزم، على الرغم من أنها قد تكون قد أصابت شيئاً من بهجة الحياة، كما نقرأ في تمثيلات جبريل نموذج السلطة التي تحاول أن تعيد ذاتها بعد أن استهلكت، فالجبل أجمل ما فيه بأنه لا يعترف بالسلطة، ولا بما يتداوله العالم، ولا بقوة المال، إنه لا يحترم إلا من جاءه متخليّاً عن كل شيء كي ينتصر للحياة.

٭ كاتب فلسطيني أردني

www.deyaralnagab.com