logo
عبد الله صخي في «اللاجئ العراقي»: وطن بحجم قبر لمقاومة معاول المنفى!!
بقلم : المثنى الشيخ عطية ... 25.12.2017

مثل أغنية عراقية حزينة، يغنيها البطل، ومن دون إثارة للدهشة أو لكبير الفضول، تنساب رواية «اللاجئ العراقي»، للكاتب العراقي عبد الله صخي، المكتوبة بين أيلول (سبتمبر) 2015 وأيلول (سبتمبر) 2016، ويعرض فيها واقع هجرة الشباب العراقي تحت نير استبداد حكم حزب البعث أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي، إلى مختلف دول أوروبا وخاصة بريطانيا، عبر محطة دمشق. عرض من خلال السرد المباشر عن الآخر واستذكار صور قديمة عنه تضيء جوانب شخصيته، وجوانب الواقع الذي أثر في تكوينه، على مستوى ظاهر بسيط لبناء الأحداث، يخفي مستوى أعمق يرتبط بعلاقة الكاتب الشخصية بروايته.
ولا يجلب هذا العرض في الحقيقة وفقاً لتصميم الرواية استذكاراً مبطناً لصور اللجوء المرعبة اللاحقة، التي ولدها رد الديكتاتوريات العنيف على ثورات الربيع العربي، في العراق وسوريا على وجه الخصوص، وصور ما حدث ويحدث في أيامنا من ذبح وتقطيع واغتصابات في الأحياء والمدن والقرى والمعتقلات، ومن قصف وتفجير عشوائي يدفع المدنيين إلى الفرار، ويدمر أرواحهم في منافي اللجوء حيث لا تغيب صور الجثث عن كوابيسهم؛ كما فعلت منصورة عز الدين في رواية «أخيلة الظل». إنما يكتفي صخي بعرض سيرة شاب عراقي من أحزمة الفقر على أطراف بغداد، اسمه علي سلمان، يضطر للهجرة إلى دمشق أولاً، هرباً من تنكيل مخابرات بلده به رغم أنه مستقل، وبحثاً عن لقمة عيش كريمة يستطيع بها مساعدة عائلته الفقيرة. ولا يجد هذا الشاب، مثل معظم العراقيين المنفيين في دمشق، ما يحقق له الأمان رغم طيبة ومساعدة الشعب السوري له، فممارسات المخابرات السورية التي أذلت شعبها، كانت أبشع عليه من المخابرات العراقية، حيث أوسعه أفراد منها ضرباً في المطعم الذي يغني به، لمجرد رفضه تغيير أسلوبه في الغناء الراقي، وتأدية الأغاني الرقيعة لهم. ولا يسع الشاب الموهوب في الغناء، والذي كان قد تزوج من فتاة عراقية لاجئة، إلا السعي للرحيل إلى أوروبا كمنفى أكثر أماناً وإنسانية في معاملة اللاجئين، واللحاق بزوجته خولة التي سبقته للجوء في بريطانيا. ويجهد علي في تزوير جواز سفر، ومتابعة حصوله على الفيزا التي أصبحت شبه مستحيلة مع تشديد الأوروبيين على منع منحها، وحذر وكالات السفر من مخالفة ذلك. ويعكس الكاتب طيبة الشعب السوري وكرمه في مساعدة الغريب، من خلال استضافة علي للسكن، ومساعدة شاب سوري من دير الزور له في السفر، من دون أن يعرف حتى اسمه، ليصل بعد معاناة وقلق إلى بريطانيا.
ولأن المنفى له شروطه القاسية في صعوبة إيجاد العمل وفي الآثار النفسية التي يخلقها التعامل مع بيئة مختلفة، يعيش علي مأساة إصابة زوجته بالاكتئاب، وطلبها منه في النهاية أن ينفصلا بعد معاناة لم يتحملا وقعها. وخلال رحيله إلى شقة سكنية مشتركة يلتقي بفتاة إنكليزية اسمها ساندرا، تقطن في الغرفة المقابلة لغرفته، ويعكس الكاتب من خلال تعاطفها طيبة وإنسانية أهل المجتمعات الديمقراطية. كما يلتقي بالفتاة السورية ياسمين التي لم يتجاوب مع حبها له في دمشق إخلاصاً لزوجته الغائبة، وعلى عكس الفتاة الإنكليزية التي تتعامل ببساطة، تتعامل معه ياسمين بروح الانتقام على رفضه لها، عبر تعليقه بها وادعاء عدم التجاوب معه.
ويُدخل الكاتب خلال هذا السرد بطريقة كلاسيكية سلسة، ما يرفع هذه الحكاية إلى مستوى الرواية: ذكريات علي عن مكان طفولته وشبابه، التي لم يرد الكاتب منها كما يبدو إضفاء عمق على تكوين شخصية علي، وكشف عيشها لمنفى داخلي مضاف إلى منفاه الخارجي، بالقدر الذي أراد منه مقارنة طبيعة المجتمعات الظالمة المحكومة بالاستبداد، مع المجتمعات المتسامحة المتعاطفة المحكومة بمبادئ حقوق الإنسان. إضافة إلى تصوير تعلق بطله ببيئة وطنه وبحياتها البسيطة، رغم فقرها وغرقها في مآسي عاداتها الظالمة للنساء والأطفال والمرضى النفسيين، مع مراكمة حزنه في كل ما يمر به في منفاه، للوصول إلى قراره بالخلاص عبر الموت: «أسندته ساندرا بجسدها وقالت: أنت مريض، سأتصل بالإسعاف. رفض وفضل البقاء قائلاً إنه يعاني من تعب، مجرد تعب وسيزول. خشيت عليه من السقوط فسحبته ليتكئ عليها. أدخلته الغرفة وجلسا على أرضيتها متجاورين مستندين بظهريهما إلى السرير. وضعت رأسها على كتفه. اقترحت أن تأخذه إلى الطبيب. لم يجبها بل تحدث بكلام متصل باللغة العربية عن النهايات: نهايات الليل، نهايات النهار، نهايات المخلوقات، نهايات الحب، نهايات الهجرات، نهايات الطرق، ثم تحدث عن الألم الكبير الذي يسحق روح الإنسان في كل فصل من فصول تلك النهايات».
أثناء محاولته النوم كان يسمع هدهدتها، جالسة قربه على طرف السرير، ممسكة بيده، كانت يدها ناعمة ملساء كحصاة صقلتها مياه النهر. وبدلاً من أن يستسلم لحرير الأصابع وهي تمسه مساً رقيقاً ليغفو استبد به شوق جارف إلى بغداد، إلى نهرها ومقاهيها وشوارعها وحدائقها، وفكر في أنه سيشفى هناك، سيشفى من جميع أمراض المنفى التي بدأ يعاني منها منذ ذلك اليوم الذي وقف فيه عند معبر الرطبة الحدودي منتظراً السماح له للشروع بالهجرة.
على هذه الصورة تجد شخصية اللاجئ العراقي علي سلمان خلاصها من آلام المنفى بالموت، لتتيح لنا، على مستوى علاقة صخي الشخصية بروايته، استخلاص فعلها في معالجة كاتبها من آلام المنفى، كما فعلت شخصية «فرتر» بانتحارها في إنقاذ كاتبها غوته من الانتحار، إن صحت المقاربة. ويبدو أن إقامتنا لهذه العلاقة غير بعيدة عن الصحة، ففي سؤال الكاتب، خلال مقابلة معه أجراها عبد جعفر على موقع الحزب الشيوعي العراقي حول تجربته مع المنفى، أجاب: «أعترف أن المنفى كاد يفتك بي أكثر من مرة حينما بدأت أشعر بعمق أن العراق راح ينأى يوماً بعد يوم، ولا أمل بالعودة يلوح في الأفق. توقفت عن الكتابة نحو خمسة عشر عاماً. كنت يائساً، أبذل جهداً مضنياً للعثور على نافذة طليقة تطل على صفاء إنساني يمنحني هدأة نادرة حتى لو كانت هدأة الموتى. وأدركت أن المنفى سوف يسلبني حياتي وربما إنسانيتي. وتذكرت ما قاله لي الكاتب والإعلامي إبراهيم الحريري بعد نحو عام من بدء التسرب القسري خارج العراق: «المنفى إما أن يبنيك أو يهدمك». كان ذلك بمثابة تحذير، كأن الحريري أراد أن يقول إن الأمر بيدك، يمكنك تفادي الهلاك. كلما خطرت في بالي تلك الوصية الثمينة أفكر بالوسائل التي تبقيني على قيد الحياة». ويبدو أن أحد أهم هذه الوسائل كانت استعادة بطله علي سلمان لبغداد من خلال الذكريات، لا كوطن متخيل بحجم الكف أو القلب يكرر بناءه وهدمه، كفعل للبقاء، كما فعل في روايته الأولى «خلف السدة» فحسب، بل أيضاً وطناً بحجم القبر أو الحضن الرحيم، الذي يهدأ فيه جسده، ضحية بديلاً لكاتبه الذي يقاوم به معاول المنفى.
في النهاية أيضاً، «اللاجئ العراقي» رواية واقعية بسيطة، يتخللها تسجيل أحوال المنفيين السياسيين العراقيين في سوريا واليمن وأوروبا بداية الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات. وهي تولّد لدى القارئ، عبر طابع الحزن المأساوي الذي يمسح فصولها الأربعة والعشرين، الحسرة على شاب موهوب ظلمته شرور مجتمعه وشرور منفاه، كما تولد لديه التعاطف مع قضايا اللاجئين، والاحترام العميق لمبادئ حقوق الإنسان.
عبد الله صخي: «اللاجئ العراقي»
دار المدى، بغداد، 2017
192 صفحة.

المصدر : القدس العربي

www.deyaralnagab.com