logo
هل تتذكرين أنني أحببت بنتًا اسمها سعاد.. يا زوجتي؟!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 23.08.2018

النسيان نعمة.. أجل نعمة، ولن تستمتع بها إلا إذا نسيت..
في باحة «الغاليري» تستقبلك شجرة برتقال كبيرة، تحسد كل من يملك واحدة مثلها في باحته. يعيدك البرتقال دائمًا إلى ما لا يمكن أن تنساه، تلك المدن الضائعة التي كلما تحدثت أمك عن برتقالها انفرطت متدفقة دموعها العزيزة.
إلى هناك تأتي لمشاهدة الأعمال المعروضة، وتأتي لمشاهدة شجرة البرتقال، وتتذكر.. وتنسى، وتتذكر.
لكن النسيان نعمة، مثل قوة الذاكرة، أو لم يقل الشاعر الذي فيك:
شجرُالذكرياتِ اســتطالَ وهذا المدى يحتجبْ
كلَّ ليلٍ أراها إلى الرّيحِ تنسلُّ
أعضاءُ جسمي لكي تنتحبْ
سأنسى لأني تذكرتُ أكثرَ مما يجبْ!
ذلك يحدث حين تصبح الذاكرة عبئًا لا تحتمل الريحُ ثقله، ولا القلبُ رجع صداه البعيد.
لكنك تنسى.. تنسى أحداثًا وتنسى وجوها وتنسى أماكن وتنسى قصائد، أغنيات، وطرقًا كنت تعرفها، وكتبًا كنت تعتقد أنك لن تنساها.
لكنك لا تنسى لأنك تنسى، تنسى لأن هناك وجوهًا جديدة أيضًا، وقصائد جديدة، وبحارًا وأماكن جديدة، وسنوات جديدة، وذاكرة كلما تشبثتْ بشيء أضاعتْ شيئًا، مثل أمهاتنا اللواتي كنّ يذهبن إلى السوق مصطحبات عشرة أبناء، وكلما أمسكت الواحدة منهن بولد ضيّعت اثنين في الزّحام!
وجهًا لوجه وجدت نفسك مع ذلك الرجل الكهل، بشيبه، وملامحه المتغضنة، وجسده الضخم، وعينيه الذابلتين خلف نظارة سميكة لا تنتمي لزمن جراحات الليزر أو الليزك أو النظارات الأخفّ من ريش النعام.
يسألك، قبل أن يمد يده مصافحًا: هل تتذكرني؟
تشرع عينيك أكثرَ، محاولًا الإحاطة به، بشيء ضاع، بملامح قد يكون الزمان قد ترك بعض أطيافها في ذلك الوجه، وتهز رأسك، معتذرًا له: للأسف لا.
- كنا في مدرسة واحدة، ألا تذكُر؟
- اعذرني، كم سنة مرت على ذلك. تسأله.
يرتبك، ويفكّر، وللحظة تعتقد أن عدد السنوات سيجعله يتخفّف من حدة غضبه، لكنه لا يفعل: منذ أن كنا في المرحلة الابتدائية.
تفرّ زوجتك متجهة إلى اللوحات في الداخل، تاركة إياك مع خطيئة ذاكرتك.
- إنك تتحدث عن نصف قرن تقريبًا، يا رجل؟ أم أنني مخطئ؟ تسأله.
- تقريبًا؟ ولكننا كنا في مدرسة واحدة، بل وحارة واحدة!
تنظر إلى من حولك، وتكتشف أنهم أكثر دهشة منك، فيمدّ لك أحدهم يد المساعدة:
- ولكنك تغيّرتَ، لم تعد ذلك الطفل. يقول ذلك الشخص له.
- ولكنه نسيني تمامًا، هذا لا يعقل!
في تلك اللحظة، تحسّ أن عجلة الحوار بدأت تدور طاحنة الهواء، ومفسدة فرحك بشجرة البرتقال، وملقية بك إلى قاعة العرض.
تتجوّل في المعرض، تلتقي زوجتك، تسألك:
- كيف استطعت النجاة؟
- بالهرب.
… …
صديقك غازي الذي فقد بصره على مدى طويل، بذل كل ما لديه لكي يتشبث بكل شعاع ضوء، لكنه في النهاية وصل إلى تلك المرحلة التي يصبح فيها خيط الظلام أكثر قوة من إرادة العينين.
يتقدّم منه أحدهم في بيت عزاء، يسمع غازي خطاه، يدرك أنه قادم للسلام عليه، فينهض احترامًا لذلك القادم الذي يرى خطاه بأذنيه، لكنه لا يستطيع أن يرى بهما ملامحه.
- مرحبًا، هل تذكرتني؟
- للأسف، لا، لأن قطعة الخشب هذه ترى، هذه الأيام، أكثر من عينَي. ويهزّ عكازته بغيظ.
-تعني أنك فقدت البصر؟
- تستطيع أن تقول ذلك.
- ولكن، لمَ لا تحاول أن تتذكرني؟
- إنني أحاول إطالة الحوار معك، لأفعل، ولكن عينيّ لا تستجيبان لرغبتي.
- ولكنك تستطيع أن تتذكر صوتي، أم أنك لا تستطيع أيضًا؟!
- للأسف، مع أنني منذ صافحتك أحاول ذلك.
سحب الرجل يده من يد صديقك، كما لو أن أفعى لدغته، وهو يكاد يصرخ: ألا تتذكّر؟!
عاد غازي إلى أحضان كرسيّه وهو يهمس نفسه: يصبح العمى نعمة حين تكتشف أن النسيان نعمة، فقد كان لا بدّ لذاكرتك أن تنسى إنسانًا كهذا، لا يغفر لك حتى عماك!
… …
ثانية يظهر ذلك الذي نسيتَه. تعرف أنه يتبعك، لأن معركته مع ذاكرتك لم تحسم بعد.
يسألك بغضب: قيل لي أن زوجتك معك، هل هي قريبة منا؟
- لا أظن. هل أدعوها؟
- لا ليس ضروريًا، ولكن قل لي: ألم تكن تحب واحدة اسمها سعاد؟
لا تملك سوى أن تصمت.
- هل تخشى أن تعرف زوجتك بذلك؟
وتواصل صمتك، تأخذ نفسًا عميقًا وتسأله: متى كان ذلك؟
- قبل عشر سنين من مغادرتي البلد؟
- لم تقل لي إنك غادرت البلد؟
- غادرتها منذ أكثر من ثلاثين عامًا، إلى بلغاريا.
- ولم تعد منذ ذلك الحين؟
- لا لم أعد، ولماذا عليّ أن أعود؟ ما الذي، ومن الذي يستحق أن أعود إليه؟
- هل أنت متأكد من أنني الشخص الصحيح؟ تسأله وكأنك قررت ردّ هجومه بهجوم أشد، ثم هل كانت سعاد تحبني أيضًا؟
- أنت لا تتذكر سعاد أيضًا! ليتها كانت هنا كي تسمع بنفسها أنك نسيتها.
وسط دهشةِ الجميع، ودهشتِهِ، سألتَه:
- هل تسمح لي أن أستعين بزوجتي؟
وقبل أن يجيب، أشرت إليها أن تأتي. كنت تريد أن تُنهي الحوار بأي طريقة. تقدمتْ، تجمّد الهواء، فباغتَّها بالسؤال، كما باغتَّهم:
- هل تتذكرين أنني أحببت، ذات يوم، بنتًا اسمها سعاد.. يا زوجتي؟!
وبعد:
ذات يوم كتبتَ: نحن ننسى لنعيش، لكننا لا ننسى تمامًا كي لا نموت.
وربما كان عليك أن تكتبَ أيضًا: نحن نتذكر لنعيش، ولكننا لا نتذكر تمامًا كي لا نموت!!


www.deyaralnagab.com