logo
هل يمكن للحزن أن يستريح في قلب شاعر؟!
بقلم : سمر لاشين* ... 24.03.2019

كالأطفال تترقب بشغف بائع الحلوى, هكذا يكون حالي وأنا أنتظر دواوين الشاعر الفلسطيني فراس حج محمد. لكنه هذه المرة لم يأت كبائع حلوى يوزع سكاكر على العشاق ومحبي الشعر, ويهديهم أجمل القصائد الغزلية, أتى هذه المرة وفي جعبته قصائد تحمل هموم الوطن والناس وكل الحزن المعتق داخله.
ديوان يجعلك تطرح الكثير من التساؤلات، يجعلك مثلا تسأل كيف تتحول "وأنت وحدك أغنية" إلى أن صار "الحزن" هو الأغنية التي تتغنى بها. هل السبب أن امرأة من حجر تسكن روحه، وتركت الحزن يكبر فيه كالسنابل؟: "لماذا كل هذا؟ | يا فتاة من حجر | ويا جسدا تعمدني, فأصبح عاريا من طين | لماذا تكسر الأوزان في شعري إذا غنيت لامرأة تكونيها؟" ص53
عندما صدر ديوان "وأنت وحدك أغنية" أطرب الجميع عذوبة وصدق ومهارة الشاعر في جعل القصيدة كالموسيقي وجعل الجميع يعيش جو القصائد، وعرفنا لماذا هي وحدها أغنية, وهنا... الحزن هنا أيضاً حين صار أغنية، أسكرني المعنى وعانق بحنوّ كل الأحزان المختبئة في ركن قلبي المنسي, وأظن أنه يمتلك من الأذرع الطويلة ما يحتضن كل أحزان الآخرين أيضاً.
تعالوا معي نبدأ القطاف في موسم حزن الشاعر العظيم..
يؤرخ الشاعر في ديوانه تواريخ محددة يصفها أنها نهايات مؤسفة (1973 – 1983 – 1993 – 2003 – 2013), وكأنه يريد أن يقول أن الأمور لم تتغير, بل ظلت على حالها تحمل نفس النهايات للأحداث برغم تغير التاريخ, نجده يقول في عام 1983: "جرع الغريب كأس الاحتمال | وعاد يبحث عن سبيل للخلاص"، وفي عام 2013 يقول "لم أستفد شيئا سوى| أني انتقلت من السكون | إلى أتون المحرقة" ص 87
هذه المرة أتى فراس حج محمد ليقول أشياء كثيرة ويفرط كل عقد الحزن بين يدي القارئ: "وأتيتكم كما يأتي الشعراء غير مرجلٍ شعري| وغير مبتسم وغير نشيط |وغير ذي عطر فرنسيّ سوى عطر المطر| وأتيتكم كما يأتي الشعراء الآخرون برؤيا كاذبة | بليلٍ وأقمارٍ ونصوص لا تنام" ص 7
ما شكل هذه القصائد التي لا تنام؟ وما الذي حدث لينقلب السحر على الشاعر؟ وكما مد يده في جيبه خرج ما يشبه الرثاء "قصائد" طازجة من غير سوء. ما الذي حدث ليكتب بكل هذا الوجع وليتمنى لو أنه كان وقصيدته حجراً, وفؤاده حجراً؟
الشاعر هو أداة لنقل كل ما يحدث حوله, وأظن أنه لا شيء حوله أو في كل الوطن العربي يدعو للفرح. فكان الرادار الذي يرصد أدق أدق التفاصيل التي تحدث حوله, يشعر بها أكثر من الآخرين. لذا, أمنيتك مستحيلة أيها الشاعر.
تعال وحدثنا عن هموم الناس, وكل ما حدث حتى يكون العنوان "ما يشبه الرثاء" أظن أيها الشاعر أنه أشد آلما من الرثاء نفسه, ولماذا في قصائد عديدة تقلل من شأن ما تكتب؟ وكأن حالة الحزن فرضت عليك نوعا من جلد الذات والتقليل منها نجد ذلك مثلاً في: "مثل لا شيء عديم الفائدة" ص 124, وقصيدة (وخسرت نوبل هذا العام ص 145)، وقصيدة (أنا طبعة تجريبية ص 108): "أنا الآن طبعة تجريبية | كتبتها على عجل فيها من الأخطاء ما فيها | من النقصان ما فيها | تحتاج للتعديل والتصويب والإكمال | بعضي مقدم على بعضه| والبعض في غير المكان" ص 108. في هذا القصائد يقلل فراس حج محمد من شأن ما يكتب، وأن ما يكتبه غير مكتمل، وأنه لا يكتب شيئا يستحق الجائزة, لكن هذا شأن المبدع الحقيقي يرى ما يكتب لا يصل للكمال. فعندما يعجب الكاتب بما يكتب فهو قد مات أدبيا؛ لأنه توقف عند هذا الشعور ولن يقدم جديدا "الكمال لله وتمام الشيء نقصان".
ونجد الشاعر يرثي نفسه في قصيدة "رثاء" ص 127، يقول لمحبوبته أن الصباح إذا أتى والعطر الشهي والورد والنغم والشعر وفيروز في المذياع والفجان والحلم أخبريهم جميعا أنه قد مات، كأنه يتخيل الحالة التي ستكون عليها حبيبته حين يغادر الشاعر هذا العالم: "قولي لهم: قد مات فما شكل الصباح بدونه | يا ليته .... | ويلاه يا ويلاه يا ويلاه | يا ليته ما ماااات".
وعلى عكس ذلك، نجده شديد التفاؤل في موضع آخر حين يكره كل شيء يذكّره بالوقت، وأن السنين تمر، ويشاغب بكل حب الحياة، يريد أن ينسى كل ما يذكره أنه بلغ الأربعين، وحبيبته أيضاً: "وأهبك قصائد أكثر حيوية ومشاغبة | لتشعري مثلي بأنك ما زلت طفلة | لم تبلغي مثلي حد الأربعين | تبحثين عن قطعة حلوى مع كل قصيدة حب صباحية" ص 141، وكأن الهروب من الحزن في بعض الأحيان هو فصل من فصوله.
هنا يرثي كل شيء ويؤنسن كل شيء (يرثي النورس المكسور جناحه ص 23, الزهور ص26, الليل – الشجر ص63, الحمام ص 28, القمر ص 54, أحلام السنابل التي بدت كأنها "سفح طافح بالحزن" ص 55 ,.... الخ) حالة الحزن حين تتلبس الشاعر يكون حساسا جدا لدرجة أنه يرى ويسمع كل شيء حوله يتكلم ويتحرك ويبكي ويتألم ويضحك، ببساطة لأنه شاعر.
في قصيدة "رثاء الذكريات" ص 90, وقصيدة "سورة الزمن الحزين" ص 94 في هاتين القصيدتين الكثير من الوجع يجعلك تقول في نفسك ماذا يحمل قلب هذا الشاعر حتى يكتب هذه القصائد بكل هذا الوجع، وحتى أنك عندما تقرأ "بم تختلف" ص 96 "بم تختلف؟ | سنة ككل سنيننا عجفاء| فيها التردي والعنا بلواء"، ستشعر أن هذا نابع من شعور عام بالإحباط؛ فهنا يتكلم بصيغة الجمع، لعله يريد أن ينقل الحالة العامة التي يعيشها الناس، ويقول إن كل السنوات سواء لا شيء يتغير غير أننا نعتاد الألم ونتأقلم معه. ونجده يصف الوضع بشكل يفسر سبب ذلك حين يقول: "كل المسافرين إلى المدينة يسيرون إلى الهباء | تطحنهم عجلات اقتصاد السوق" ص 120 .
يذكر الشاعر في بداية ديوانه شيئا عن الجنود "الجنود يغتصبونني| ويأخذون مني لغتي |ويسرقون ملامح صوتي| يعلو صوتهم على بقايا جثتي ويحتفلون بنخب دم" ص 37, ثم قصيدة "رسالة للجنود المنهكين" ص 114 ثم "رسالة أخرى للجنود المنهكين" ص 116 "أما زالوا هناك مقعدين | على الأبواب | يطاردون تاريخ المدينة | ويدخلون الريح في متن الحكاية؟". ما الذي أردت أن تقوله أيها الشاعر؟ ولماذا يرسل رسالتين لا يفصلهما قصيدة أخرى؟ وهل هؤلاء الجنود هم العسكر التابعة لدولتك؟ ولماذا تشفق أنت عليهم لدرجة أن ترسل لهم رسالة ثم تعقبها برسالة أخرى، وكأن هذا التعب الذي هم فيه يشغلك وتشعر به مثلهم تماما بالرغم من الظلم الواقع عليك منهم.
القدس تلك المدينة التي لا تموت "تلك المدينة المسماة فينا القدس.... إن مات كل شيء واستراح هي لا تموت" ص119، القدس بكل ما فيها من أصالة وتاريخ لا تخص الفلسطينيين وحدهم بل كل العرب وفي هذه القصيدة يريد الشاعر أن يقول إن جعل القدس عاصمة إسرائيل لن يجعلها تموت في قلوب الفلسطينيين ولن ينسوا يوما أنها قطعة وجزء من أرضهم وعرضهم. ومن ناحية أخرى هو لم يشغله الشأن الفلسطيني الداخلي فقط، بل نجده يكتب قصيدة للطفل السوري الغريق "إيلان كردي" الفار من جحيم المعارك في سوريا إلى المجهول والموت في البحر، ص121.
ولأن حالة الحزن عندما تكون كبيرة فإن الإنسان أكثر ما يذكره هو الموت, هنا في قصيدة "طقوس الموت والحياة " ص 35 يطرح الشاعر تساؤلات حول من يصنع التابوت للموتى "أنه في الوقت الذي يبكيهم يمضي بعد ذلك في حياته"، ويسأل هل يذكر هذا موته أيضاً. وكذلك من يغسل الموتى سيذكر يوما أنه يوما ما غسل الآخرين إلى المقابر.
في هذا الديوان يرثي الشاعر كل ما مر به وكل امرأة عرفها يوما, فراس حج محمد يقدس وجود المرأة في الحياة يقول "نساؤنا ثمر بطعم من غواية روحنا" ص 39, هذا الديوان يضم أكثر من امرأة وليس امرأة واحدة، الأخت, والصديقة, والعشيقة, والمحبوبة, وحتى أولى محاولاته في الحب"، يريد أن يقول لكل امرأة مرت بقلبه: كان حبك في حياتي عظيما وأنا رجلٌ لا ينسى من أحب يومًا. يذكرهم في الغياب بنفس عظمتهم في الحضور.
سأقوم بعرض بعض من نماذج المرأة في هذا الديوان:
المرأة الزوجة:
"زوجتي تعد فطوري كل صباح كأن المطعم في بيتي "خمس نجوم" وزوجتي الأخرى واقفة بين مسافتين تحرس قلبي من الوقوع في المجهول" ص 171
المرأة الصديقة والأخت:
أغلب الصداقات الآن صداقات افتراضية، فيها الكثير من المشاعر الإنسانية النبيلة هنا الشاعر يصورها بقوله "يكفي لهذا "النت" بعض صداقة | وأخوة وعبير آمال سواحر | تحيين في لغتي سرا | ينام بخاطري | يا ليتني أستطيع تصوير | السرائر". ص 51
لكن لماذا هنا يعنون القصيدة بـ "أحلام الشاعر"؟ والبداية توحي بمشاعر أكثر من الصداقة نجده يقول: هلّت كشبه الروح | كالبدر المسافر | كأديبة تشدو | وغزالة تخطو | بعطر عاطر. ص50
ذكريات الحب الأول في حياة الشاعر:
يعنون الشاعر القصيدة التي يذكر فيها بعض تفاصيل حبه الأول "الشعر يكتب سيرته"، وكأن الشعر بدأ مشواره معه منذ أول ولادة للحب في قلبه. يريد أن يستدعي ما مضى ويرثيه بكل ما فيه من حنين "يا بحار الشوق عودي | واغسليني في كل أنواع الرمال الشاطئية| يا غبار الروح وزّع | روحك القتلى على كل المقابر" ص 56
للحب الأول وذكراه سحره الخاص يقول: "تلك الفتاة المنتقاة بكل شيء أعجبتك| أنثى تصيح بداخلك | وتطحن في دمائك كل شوق في لقاء | وأنت مسكين فلم تظفر ..... بنظرة! | أتذكر كيف مر العمر | يسحب قامتك النحيلة | مسحوقا بكل قصيدة من حب | أتذكرهن في أحلام رجفتك الحزينة". ص 57
المرأة الأديبة في حياة الشاعر:
المرأة الكاتبة يراها فراس حج محمد مثل لاعبة التنس "لا أجمل من لاعبات التنس الأرضي بمهارة يضربن الكرة الصغيرة لا يفكّرن بغير الهدف الخارجي". ص74 ثم يتابع ذلك بقوله: "وحدك من سيخسر دائما |إن عشقت امرأة تلعب فيك الكرة الصغيرة | تكتب فيك لغيرك| تقرأ شعرا لسواك| تفتح ليلها لغير هواك | تقاوم أو تناضل| تحارب أو تسافر| تمارس شهوتها على عجل هناك| تلهو وتنسى | تتناسى شهوتك المنداحة في الأحلام |تحضر المهرجانات | تخضر| ييبس عرقك الناحل في الحب والذكرى وأشياء أخر | متونها أوسع من هامشك الضئيل". ص75-76
بالرغم من البراعة الشديدة في كتابة هذه القصيدة الا أن الشاعر هنا نظرته للمرأة الكاتبة غير عادلة. يوما ما كتب الشاعر "حتى تصبح الشاعرة شاعرا كبيرا" لا بد من أن تحصل على كل الامتيازات الممنوحة للرجل, وهنا أول من ثار عليها شاعر أراد لها أن تكون في المكان الذي يريده هو وليس ما تريده هي، وكانت رؤيته لما تفعله شيئا يأخذها من حياة الرجل الذي تجمعه معها حياة خاصة. لماذا لا تنظر المرأة للشاعر نفس النظرة؟ وينهي القصيدة بما يشبه الرثاء "ما أصعب أن تقضم حزنك أيها المسكين ! | فالشمس عاجزة على الشبّاك" ص76
المرأة التي أخذت النصيب الأكبر في قصائد فراس حج محمد :
"ثمة امرأة غير أمي | تفتش في ملابسي الداخلية عن أمارات النساء الأخريات | عن مصير الحبة الزرقاء في جيبي |عن رائحة أنثوية في الخلايا النائمة" ص131، هي المرأة التي لن يتحدث عنها لأي عشيقة أخرى ولن يبوح بسرها لأحد، وستظل أغنيته الوحيدة التي لن يمل من سماعها، هي والسر سواء، المرأة التي تريده افتراضيا، وكل هذا الشعر وكل تلك القصائد التي كتبها لها لا تشفع له ليكون حبيبا علنيا: "الشعر لن يشفع لي | لأكون حبيبا علنيا فهي تريدني افتراضيا وأزرق | كيف سأظهر معها وأنا أعاني ما أعاني | من عرج ونحول وشيب" ص34 وفي موضع آخر يذكر: "الفقير لا يصلح للحب | المريض لا يصلح للحب |الشاعر لا يصلح للحب | وأنا فقير مريض ويقال شاعر" ص 148 (من يكتب هذه القصائد ليس مريضا أو فقيرا ولكنه حتما شاعر عظيم).
وهى المرأة الحاضرة هناك ص 162 , وهى الغريبة ههنا "أنادي في الظلام الحي :| "أين أنا وهي؟ | فيرد صوت العمق: "غريبان هنا, هنالك" | والصوت أضيق من فسحة الشفتين في هذا الظلام" ص 165، وهي المرأة التي تركت الحزن يكبر بداخله كالسنابل, امرأة من شدة حب الشاعر لها تسكن روحه وجوانحه ولشدة قسوتها وبعدها "فتاة من حجر" يقول "لماذا لا تعدين الفؤاد لحفلة تكوي الحنين؟"، وأيضاً "لماذا تُكسر الأوزان في شعري إذا غنيت لامرأة تكونيها؟" ص 53, وبكل صراحة يخبرنا أنها ليست له في قصيدة "القسمة الضيزى" ص78 "جسمي له, عقلي وقلبي روحي لك | وبسمتي أنتَ من يصنعها | والياسمينة وحدك من يزرعها | فواحة على صدري الحنون" وفي آخر القصيدة: "ما بين الجسم والقلب الحرون |والقسمة الضيزى | أن يكون القلب لك وبقيتي للريح ...."، وهي التي تحمل وصية الشاعر, وهي شهرزاد التي لا تغادر ظلالها حياته وقصائده, وهي .... وهي وحدها أغنية.
وعندما كتب الشاعر في نهاية الديوان عنوان "وأخيرا"، فإنه يطلق آخر ما في جعبته من الأحزان، مجموعة قصائد قصيرة، كأنه يريد للحزن أن يستريح، وهل يمكن أن يستريح حزن في قلب شاعر موجوع؟
يقع الديوان الصادر عن دار طباق للنشر والتوزيع – فلسطين، 2019 في (194) صفحة، بـ (71) قصيدة بجانب مجموعة من القصائد القصيرة بلغ عددها (30) قصيدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة وشاعرة مصرية، صاحبة مجلة طروادة نون النسوة الإلكترونية، المخصصة لنشر الإبداع النسائي، وصدر عنها المجموعة الشعرية الأولى "طروادة نون النسوة"، ولها قراءات أدبية، وديوان شعر مخطوط.


www.deyaralnagab.com