logo
الولوجُ في التيه في رواية «فقهاء الظلام» لسليم بركات !!
بقلم :  غمكين مراد  ... 11.11.2019

في سبيل أن تحفرَ في ذاتك كأنكَ منجمٌ مجهول، يُحرِّضُ المعلومُ عليه، لتتعرفَ على نفسِك، لا بدّ من حريقٍ يلتهمُ آثار جسَدك، لتجمعَ رماداً تفاصيل روحك، في سبيل أن تعيش كأنك الحياة ولمرةٍ واحدة، وتُعيدَ هذه الحياة بصورٍ عديدة، لا بُدَّ من أن تكتب، وفي سبيل أن لا تُسمّي ما تكتبهُ أو تسميهِ مداورةً هو كفةٌ من بقايا رمادٍ من ذاتك.
سليم بركات يحفرُ عميقاً في ذاته لكي لا يترُك لسيرتهِ أن تنتهي عند «السيرتين» بل أضفى على ما أخرجهُ من ذاتهِ كثافاتٍ حالمة فقيهةً، بعتمة الرماد، لينسُجَ تتمةً ثالثةً للسيرتين. ما بدأهُ «كنا صغاراً» في الجندب الحديدي إلى «أين سأهربُ مني» في فقهاء الظلام هو الحفرُ ذاتهُ في صدى رماده:
«لأكن صدى ما لا أعرفهُ لا صوت ما أعرفه»
ملتفاً بعباءةٍ مائلةٍ إلى الزرقة تُمثِّلُ السماءَ المُطلّةَ على الوطن، وما تحتها ليس سوى زرازيرٍ في خروجها باتجاه الشمال دوماً وأبداً، تُمثِّل أبناء الوطن التائهين بين الجهات بقلوبِ ألمٍ سوداء كلون الزرازير، سليم يغدو في هذا لاعباً ماهراً في خلقِ الأسماء ونافخاً فيها روحاً ليست إلا صدى ما لا يعرفهُ، حيثُ للأسماء في الرواية رنينُها، ولرنينها روحُها مُهجأةً إلى حياةٍ بحدِّ ذاتها، مُضافةً إلى حياة الرواية بتاريخٍ ليس يعرفهُ إلّا المُدرِّك لصدى ألمها وفحوى السيمياء إلى دلالاتها، إسقاطاً لا يخلقهُ غير الغارق في لُذة الألم ووجعِ الحرمان وغدر الانتظار.
ابن الملا (كرزو) ليس إلّا سليم الذي يديرُ المحنة بامتياز، بمشاهداته، وملاحقاتهِ وتطفلهِ وذكائهِ، وعمرهِ الصغير الذي يُمهِّد لما هو آتٍ من تراكم هذه الأحداث تاريخاً لشعبٍ فقيهٍ في الظلام والذي سينيرهُ (كرزو) ضوءاً في إحداث المتغيرات: «انتظرني، انتظرني يا كلب» ثم يتوقف وهو ينشج «سأخبرهم، والله إنك كنتَ هنا طول الوقت، قرب الشجرة الكهرمانية، في خيمة عفدي، وفي الزقاق المسدود، سأخبرهم».
هو صياح (كرزو) على بيكاس (الوطن) المتروكِ وحيداً (معنى بيكاس ليس لهُ أحد) بيكاس هو الذي يرزح تحت عمرهِ المتقافز أعواماً في لحظات، يجترُها من ألمِ بقائهِ بلا هويةٍ تحت نيّر المتحكمين بمداولات المصائر، بيكاس الوطن الشَبَح، الطائرِ في جغرافية كلّ الأمكنة المتنفسةِ بآمال وأحلام وآلام (كرزو)- سليم الكردي- بيكاس الحابكِ لهوامش التفاصيل الحياتية في نسيان أبنائهِ في البحث بعيداً في إثبات هويتهم، نحو الشمال (جغرافية بيكاس) المُرمَّمِ من أحلام يقظةٍ وأحلام يأسٍ تحبو نحو أملٍ يخبو زمناً وينتفضُ لحظةً، الشمالُ القمرُ المتحوِّل الزائدُ والمتحوِّلُ الناقصُ في متاهة الكردي المرئية زمناً والمخفيةِ زمناً آخر، الشمالُ المحبوكُ كشبكةِ عنكبوتٍ، خيوطُها قلبٌ متآكل أجزاء أجزاء من أبنائها المنفيين في سواد الحياة وبياض الحلم:
«ثم يمضي شمالاً ليغيب في الشبكة الرمادية المنسوجةِ من الليل والثلج». لكلِّ اسمٍ عند سليم نحتهُ الخاص وصداهُ الخاص، وبالتالي الجوهر والتاريخ الخاصين في لعبةٍ، حقيقةً، هي ليست إلّا مصائر مُتقاذفة من واقعها المُعاش إلى لجوئها الكتابيّ، مستقرةً، مُتلذّذةً بهالةِ أحرفها وشيفرة سياقها وتلكم أسماؤهُ: برينا (جرح) الأم بيناف (بلا اسم) الملا الأب يلِّدان بيكاس (ليس له أحد) أسماءٌ منحوتةٌ من التاريخ، القَدَر، للكردي في اجتراء جُرحهِ مُملحاً بأيدي ربات الأقدار الدولية، في اجتراء التضحية بنفسهِ في سبيل الآخر الذي ينكرُ عليه حقهُ في ما بعد، التاريخ المُتقافز في سرعته تكراراً لألمٍ يولّدُ في يوم ويهرمُ في نفس اليوم، التاريخ الزمنُ اليومُ الواحدُ لا غير، في الإحساس بالأشياء لا التلذذ بها، وفي سؤالٍ قاسٍ جداً لهذا التاريخ:
«أيمكن للذاكرة أن تستعيد الألم حرفياً»
«فقهاء الظلام» رواية عن حياة أناسها ليسوا سوى أشباحٍ يقودونهُ كقيادة حوذيّ لعربة، أشباح جغرافية معاشهم ظلال صراعاتهم بأسلحةٍ هي آلات من جهة ومن جهة أخرى ألم:
«ومعنا آلاتنا فدمدم بيكاس ومعي ألمي»
شخصيات فقهاء الظلام متشظيةً كتشظي سليم، كتشظي الوطن الضائع، سليم الذي لا يستطيع أن يقف حيال هذا الانقسام، بدون أن يردّها إلى الوحدة التي كانت، ولو كتابةً، إلى المصير الذي تشَعّبْ، والوجود الذي تفتت
سليم بركات يجعل الزمن ألعوبةَ مصائر يُحوّل العمر الطويل إلى يوم واحدٍ يُعاش، حين لا يكون ذا ثقلٍ، حين تضجر من كتلتك كثافتك، حين يترك في التراب، الشجر، الحجر، حنيناً ينطق جماده مضيفاً إلى مصائر البشر لوعة البقاء في نبات أو حيوان، هكذا تهمس شجرة الزيتون للملا بيناف مخاطبة إياه:
«اغمرني بكَ قبل أن تأخذكَ الظلّال، وللظلّال في عُرفِ الشجرة التي لن تكبر قط مقامٌ: قلق الظلال لعبةٌ طائشة، الظلال هي ضجر الكتلة من كثافة الكتلة». في متن هذه التغريبة الحياتية للكرد والمنسية تحت بنود صفراء تلعقُها الديدان وبتصويرهم كقرابين جاهزة لبندٍ جديد، لا يتبقى للكردي سوى الحدود المرسومة على قياس عجزه وصمته غير المؤتمنة الجانب بدورها: «ليس لأحدٍ سوى خرافهِ وبيتهِ وقمحهِ الذي يخذله أحياناً فيتركهُ عارياً». لم يكن سليم بحاجة إلى كتب التاريخ ليدوِّن تفاصيل هذه المأساة المثمرة، كان يكفيه فقط وجعهُ ليُدير المحنة من عرقوبها (كرزو) ولتشهد على كلّ ما ومَنْ مَرّ على شجرة الزيتون في ساحة العراء: «كانت تتكهن كثيراً بالذي يفعله هؤلاء ذوو الملامح الضائعة تحت الشعر الطويل والعباءات التي يجرون أذيالها وراءهم في ساعات غيابهم تلك، وهي الشجيرة التي لن تكبر قط لم تكن مفطومة أن تفضي قط حين يُنظر إليها أحدٌ ما، الشجر لا يفضي».
وهي تورية سليم في الورقات المهيأة للتدوين ومن ثم خلودها في اخضرارها الدائم.
لم يكتف سليم بالمُعاش لينسج تفاصيل هذا الوجع، بل عاد بشخوصه، بزمنه إلى صراعها الأزلي البدائي قبل ولوجها الحياة، عاد إلى حين كانت نِطافاً تتصارع في السباق، اللهفةِ في السباق المجهول ليُساير بين حدثي متاهته: بيكاس الحياة وبيكاس النطفة، في المضي بالرواية إلى حتفها، ذلك الحيوان السابح، النطفة، التي تجتاز ملايين مثلها لكنها القصة والمسيرة والسيرة للحياة الباطنية لبيكاس.
شخصيات فقهاء الظلام متشظيةً كتشظي سليم، كتشظي الوطن الضائع، سليم الذي لا يستطيع أن يقف حيال هذا الانقسام، بدون أن يردّها إلى الوحدة التي كانت، ولو كتابةً، إلى المصير الذي تشَعّبْ، والوجود الذي تفتت، وإلى الغربة التي ترسمت، استجابة لبنود القوة والتمايز لا يستطيع إلا أن يُعيد للحقيقة العارية عباءتها، لكن من خلال المُحاكاة بين أشجار الكرد، وليس الكرد أنفسهم، لم يستطع أن ينسى الحدود الحاجزة بين الأمكنة المسروقة ببشرها، لا تستطيع أن تفصل بين حوار الشجر للشجر كردياً، لا تستطيع أن تمحو ذاكرة البشر إجباراً كتناسي: «إما الحال التي وصلت دغل الهلالية (سوريا) بدغل نسيبين (تركيا) فكانت إمعاناً من الشمال في حبكته المُضحكة، فما من ورقةٍ سقطت من شجرة زيتون في الدغل ذاك إلا وسقط مثلها في الدغل هذا، وما تطاول غصنٌ في دغل الهلالية إلا تطاول مثله في دغل نصيبين، تقاطع، وتخاطر، يهمسان حتى ليكاد النسغ في شجرة من دغل الهلالية أن يسيل من جذع شجرة في دغل نصيبين إذا تجرّح».
في كلّ هذا المخاض العسير لولادة الوجع يلتفت سليم إلى المنتظرين لهذا الوليد متناسين أنّه وجع، لعلها كأي ولادة ليتطرق إلى يوميات حياتية وأحاديث روتينية فيأخذ من أحاديث الدلال الكردي مخاطبات بسيطة، لكنها متداولة كحديثٍ عادي: «يا سراجي… يا خبز جدك وعينيه… يا سند سقفي… يا كُحل عيني». ويأخذ من كوخ عفدي ساري الجِد، الضيق المحطة الأخيرة للهرم حين تغدو مسافات الغرفة شاسعةً أمام المعمِّر العائد قهقرى إلى طفلٍ صغير يحتاج إلى مكان يناسب حالته: «كنتُ أبلغهُ بسبع خطوات والآن تقتضي المسافة ثلاث عشرة خطوة، ها كنتُ أرى من نافذة الجدار الشرقي وأنا جالسٌ هنا الأوراق في شجرة الكينا، والآن لا أرى إلّا منتصف ساقها الباهت»، على لسان جد برينا.
ويُعرِّج على كرامات الأولياء المُقدسة عند العقول اللاجئة إلى الله في عرشه، حيث يجعل من خطبة الإمام في المسجد وانزياح المسجد وغمره بالماء كرامات الأولياء أشباحاً لحياة شخوص روايته: «خرج المصلون بعد انقضاء الصلاة من المسجد فلم يجدوا أحذيتهم التي تعودوا أن يتركوها خارجاً، بل رأوا عوضاً عنها جداول رقيقة من الماء سرعان ما اتسع جريها تنسلُّ إلى الداخل. تعوذوا، ثم رفعوا جلابيبهم حتى الركاب مع ارتفاع الماء في أرض المسجد، وكان الأدهى أنهم حين نظروا من الباب الواسع، أو من الشبابيك الواسعة لم يجدوا الشارع أو البيوت التي تحفُّ المسجد من الشرق والغرب والشمال كأنما دفع المسجد إلى الجنوب».
وهكذا فإن «فقهاء الظلام» روايةٌ ظلامية بامتياز بعيون بيضاء أناسها لا مرئيون يحيكون المصائر والأقدار لتاريخٍ لامرئيٍّ تخترق شفافية أرواحها عيون صبيٍّ يُمثِّلُ ما يجب أن يعتمِّر في أعماقهِ من خطط وأحداث للتغير، أرواحاً مرئية تحت نظر شجيرة زيتون ثابتة بعيون المُراقب المدوّن العارف حقيقة ما كانت تُمثِّلها الأرواح المرئية، من خلال الماء المتدفق عبر الجذر إلى النسغ البطيء لعمرها الدائر في الثبات.
الكتاب: «فقهاء الظلام» – الناشر: كتاب الكرمل 2

٭ القامشلي سوريا

www.deyaralnagab.com