logo
العراقية فاطمة المحسن في “الرحلة الناقصة”: سيرة تكتمل بالإبداع ومواصلة الحياة!!
بقلم : هاشم شفيق ... 04.10.2020

قليلة هي المذكرات التي تستدعي الصدق والكلام الصراح والوثوقية، وتدعوك كي تستثير الخيال على التأمل والتفكر واستجماع السوانح، لتسرح في عالمها المستدعى من السنوات والعقود والتواريخ الماضية، من ماض غابر، عبَر في حياة ومؤلف وسارد الذكريات، المترحّل في عالمه الخاص بيوغرافياً، مستبطناً ماضيه وحياته السالفة، ومسترجعاً من خلال سيرته كل التفاصيل الصغيرة، والكبيرة التي مرّ بها، ولا سيّما الخطوب الجُلّى، من عالمه التراجيدي، وحياته التي تعرّضت للمحن والمهالك والصعوبات والعوائق، أو تلك الساعات والأيام المؤثرة بجماليّاتها على حياته، وهذه تكون، أي السعادات، في الغالب الأعم للإنسان المعاصر جد قليلة، أو أقل عموماً من واقع الأوقات المأسوية، لذك نجد سارد المذكرات أو الكاتب الذي كتب عالمه الأوتوبيوغرافي مستغرقاً في التفاصيل المؤلمة، والكاوية، تلك التي تركت ميسمها الحارق عليه، على تفكيره وروحه وجسده، وتغلغلت في بواطن الذهنيات، لتمسي جزءاً من سياق الكائن، هذا الكائن الذي مرّ بكل هذه التجارب المرة، تجارب بلورت جزءاً من مسيرته اليومية والحياتية، واستوطنت منطقة معتمة من تاريخه الشخصي، وظلت قابعة هناك، حتى جاء القلم وفك أسرها، لتغدو طليقة، وتخفّف من عبء حاملها طَوال تلك السنوات.
ولعل كتاب الباحثة والناقدة العراقية فاطمة المحسن “الرحلة الناقصة” هو خير مثال لهذه الوقائع والأحداث والملمات التي اجتمعت في سيرتها الشخصية. سيرة فيها ما فيها من محطات ومواقف وقضايا صغيرة وكبيرة، كانت الكاتبة قد شهدتها ومرّت في حياتها التي تبدو متشعّبة من جهة الهجرة والتنقل من مكان إلى آخر، ومؤثرة من ناحية اعتقالها وسجنها لدى نظام عنيف وقاس، كنظام البعث السابق، بحجة انتمائها إلى الحزب الشيوعي العراقي، ومن جهة ثالثة، يتخلل سيرتها بعض الأيام الهادئة والبسيطة، كلحظة دراستها في هنغاريا، مضيفة إليها أيام عيشها في دمشق، تقابلها في المنحى المختلف الأيام العصيبة في السجن لفتاة رقيقة ومرهفة وجميلة، ولا سيّما حين تقع بين براثن جلاد لا يرحم الجمال والهشاشة والعذوبة، بل يسعى بشتى الطرق لأن يدنس الرقة ويهشم المعنويات الصادرة عن أنثى. بيد أن الأنثى هنا نراها تحاول بشتى السبل أن تطيح بالموقف المختلف وتدحض التعاليم الفاشية، فأنت حين تكون جريحاً وطعيناً ونزيل زنزانة ووحيداً، ماذا يا ترى ستكون النهاية غير أن تلقى على يد جلادك فنون التعذيب وتمريغ الذات وكسر ما تبقى من مرايا الروح، لتغدو مهشماً تماماً؟ لكن في النهاية لا يستطيع الجلاد الاستمرار في أفعاله الشنيعة، من خلال الإيغال والتمثيل بالجسد الأعزل، الهش والمستباح إلى ما لا نهاية، فهو يريد منك أن تعطي شيئاً، أن تنبس، أن تخون، فهل كلمة لا عادت بانتفاع ما، كما كان الحال مع فاطمة وهي في السجن؟ فحين عجز المحقق السرّي والجلاد والضابط المناط بالمهمة المخزية عن التركيع والتسقيط والتمريغ استعاد وعيه الملطخ وأعيته الحيلة، فاعتذر بطريقة ما، مثلما يعتذر أي جلاد لضحيته عن الخطيئة التي يحسبها واجباً وعليه التنفيذ، كونه عبداً مأموراً، كما قال لها بعد مثولها أمامه لحظة خروجها من الزنزانة.
“لعلَّ نقطة ضعف السجين ساعة التعذيب هي تفكيره بالنجاة، فهو يفتح كوة أمامهم لتحطيمه جسديّاً وروحياً. وجدتُ طريقة للهروب من التعذيب بإضرابي عن الطعامم، فالإضراب لم يكن موقفاً نضالياً، بل وسيلة لدخولي في غيبوبة بعد فترة قليلة من ساعة التعذيب، أعرف أنّ هذا الموقف لا يعني الكثير في سجون البعث، حيث لا يسأل السجين عن حقّ له مهما كان نوعه، غير أنهم حاولوا إرغامي على تناول الطعام وأنا مستلقية على الأرض، مكبلة اليدين بالحديد الذي يحز ظهري، وأتلقى الرفس بالأقدام، وأحدهم يحاول فتح فمي وسكب الشوربة، كنت في يأس مطلق من أن أرى حياة الحرية”.
تتناول مذكرات “الرحلة الناقصة” عدا هذا الفصل، وهو قصير نسبياً، فصولاً ذات تفاصيل كثيرة من حياة الكاتبة فاطمة المحسن، بدءاً من بواكير حياتها الصحافية حيث العمل في “مجلة الإذاعة والتلفزيون” التي كانت تهيمن على أقسامها وصفحاتها كوكبة من اليساريين، على رأسهم أخو الكاتبة زهير الدجيلي، وهو الأخ غير الشقيق، مع كتاب معروفين حينها من أمثال عبد الرحمن طهمازي وقيس قاسم وزهير الجزائري وغيرهم. كان ذلك في بداية المشوار الصحافي حيث الركض اليومي ما بين متطلبات الصحافة، ومتطلبات الحزب الشيوعي الذي كانت تنتمي إليه الكاتبة، في تلك الفترة الحساسة من تاريخ العراق الملبد دائماً بسحب سوداء، من الثورات والمؤامرات والانقلابات العسكرية، كان آخرها انقلاب البعث عام 1968 وبداية عهد التسلط على يد الزمرة البعثية، يوم جاءت مرة ثانية إلى الحكم بأسلوب جديد، راح يتكشف بالتدريج عاماً بعد عام، عن الوجه الدموي القديم الذي كان يتميز به على الدوام، فبدأ باستمالة الحزب الشيوعي إلى حين، وكذلك الأكراد، لكي يستتب له الوضع ويرتب أوراقه من جديد، فانتشرت الصحافة والمجلات ونشطت وزارة الإعلام، وظهرت مجلة “ألف باء” حيث ضمت المجلة في بداية مشوارها العديد من الكتاب اليساريين، القادرين بخبراتهم الثقافية الواسعة على إدارة شؤون الصحافة وتسيير دفّتها، تقنياً وكتابياً وفنياً، وظهرت إلى جانب هذا عبر التحالف الشيوعي البعثي صحف الحزب الشيوعي ومجلاته مثل مجلة “الثقافة الجديدة” الشهرية، وصحيفة الحزب الشيوعي اليومية “طرق الشعب” والصحيفة الأسبوعية “الفكر الجديد” تنضاف إلى ذلك “دار الرواد” التي كانت تطبع مطبوعات الحزب وكتبه ومنشوراته السياسية والثقافية.
من هنا وجدنا استقطاب مجلة “ألف باء” الأسبوعية الحكومية لفيفا كبيرا من الكتاب، ومن ضمن هؤلاء كانت فاطمة المحسن من بين العاملين فيها، فضلا عن كتابها المشهورين مثل حسين مردان وفاضل العزاوي وصادق الصايغ وسالمة صالح وآخرين غيرهم. ولكن الأمد لم يطل معهم، فالبعض غادرها مرغماً، والبعض مفصولاً أو مطروداً، فلجأت حينها فاطمة المحسن إلى جريدة “طريق الشعب” لتعمل في أحد أقسامها الكثيرة، وهنا ستسلط الكاتبة الضوء على مسار الجريدة ويومياتها معها، ثم تنعطف باتجاه تجربتها العاطفية، ثم تميل صوب تجربتها السياسية ومتابعة التنظيمات التابعة للحزب الشيوعي في عموم بغداد، ولا سيما في منطقة الكاظمية وبعض المناطق المناصرة للحزب في بغداد.
وحين تسرد الكاتبة مواقفها ونشاطاتها في الحزب وفترة اعتقالها، ومن ثم السفر إلى الجبل في كردستان العراق، ومن هناك نحو إيران إلى حيث الالتحاق بحزب “تودة ” وهو الحزب الشيوعي الإيراني الذي استضاف حينها بعض الشيوعيين العراقيين المطاردين لفترة وجيزة، حتى ترتيب وضع مغاير لمسيرتهم التي ستطول في المنفى لقرابة الثلاثة عقود.
من أجمل محطات الكاتبة فاطمة المسحن في منفاها، وحسب ما توضحه المذكرات، هي فترة هدوئها في بودابست العاصمة الهنغارية، لغرض الدراسة والبحث والاستقصاء، ومن ثم نيل الشهادة العليا هناك. ومن المحطات الأقرب إلى نفسها، نفسياً وفنياً وجمالياً وكتابياً، هي مرحلة العودة من هنغاريا إلى دمشق، حيث العمل في الصحافة الفلسطينية، وتحديداً في مجلة “الحرية” مجلة الجبهة الديمقراطية الصادرة حينذاك بدمشق في فترَتي الثمانينيات والتسعينيات.
هناك ستنضج أدوات الكاتبة على المستوى الجمالي وتغتني وتتوسع، من جهة البحث والتقصي والتبحر والاستزادة، لرفد مشروعها البحثي والنقدي، مسترشدة بالمكتبات الكثيرة وقرب بيروت من دمشق، وقرب بغداد أيضاً، ناهيك عن قرب عمان وفلسطين من سوريا عموماً.
فهناك أي في الشام، ستتحرر تماماً من الزواج الذي لم يدم طويلاً، وستتحرر من مسألة البعد المكاني واللغوي والروحي، فالشام مدينة أنيسة وأليفة لمن يسكنها رغم وجود العسس والمخبرين، حيث الكل موجود تحت النظارة والمراقبة والمساءلة في أية لحظة، فالشام ستمنحها حرية التسكع والسير والسهر والقراءة والكتابة والتسوق من أسواقها الجميلة، كالحميدية والبزورية وباب توما وغيرها من الأسواق الشامية التي تعبق بماض لا ينسى ويذكر دائماً بالأيام الخوالي للعهود السالفة، هذا دون أن تنسى الكاتبة الإشارة إلى بيروت، مكرسة لها فصلاً جميلاً يليق بمقامها الحميم.
أما فيما يتصل بمكانها اللندني حيث تقيم، فثمة إشارات إلى أصدقائها الكثيرين وفي كل مكان، من عراقيين وعرب، وحيثما حلت ستكون هناك صداقات ونشاطات أدبية وفكرية وفنية، وهنا سيحضر كثيراً صديقها وزوجها الراحل المفكر فالح عبد الجبار، ستحضر صديقاتها المقربات وكذلك أصدقاؤها المقربون في مجمل صفحات كتابها الممتد إلى عشرة فصول ملئت بالأفكار والذكريات والتفاصيل الدقيقة، القريبة والبعيدة، مستجمعة كل تاريخها، لينطق ويكون شهادة ووثيقة نادرة على حياة مرت بين التضحيات والعذابات والانكسارات، وبين النشاط الثقافي والفكري والأدبي، والذي تخلله نوع من المسرات والهناءات والسعادات الصغيرة، والنفحات الجمالية المؤثرة بوقعها المريح على النفس، من أجل أن تستمر الحياة.
فاطمة المحسن: “الرحلة الناقصة”
دار المدى، بغداد، بيروت، 2020
223 صفحة.


www.deyaralnagab.com