logo
ياسين:رواية تجيب على أسئلة مذبحة!!
بقلم : رشاد أبوشاور  ... 11.08.2021

تبدأ رواية( يسن) بالسؤال:هل يمكن للذاكرة أن تصاب بالصدأ، وتهترئ؟
رواية ( يسن) للروائي والشاعر أحمد أبوسليم، هي رواية المذبحة التي لن تبرح ذاكرة الشعب الفلسطيني حتى بعد عودة الأجيال الفلسطينية من الشتات، مهما طال زمن التشرّد، وعودة نسل أولئك الذين نجوا من المذبحة، ولم يعاصروها، ولكنهم عرفوا عنها، مّما روي بأفواه بعض من نجوا، أو ما جاء مختزلاً في كتب مرّت على ذكر مذابح كثيرة اقترفها من حملوا أساطير التوراة الخرافية وطبقوها على لحم ودماء الفلسطينيين،التي كانت مذبحة( دير ياسين) هي أبرز المذابح المؤسسة لسلسلتها التي لم تتوقف رغم امتداد عقود من الذبح والتشريد.
الرواية تقول ما لم يقله التاريخ، لأنها تدخل إلى ما تقصّر عن قوله كتب التاريخ، وما يتهرّب منه المؤرخون، وما يجهلون تفاصيله، والذين غالبا ما يغلفون الوقائع بكلام إنشائي تهربا من قول ما يجب أن يقال، عدا المزورين المتلاعبين بوقائع التاريخ.
هذه الرواية، يسن، تقول الرعب، والموت، والهول،والوحشية، وما يبقى دائما في الذاكرة، ذاكرة الأجيال التي لا تنسى، وهي لن تنسى المذبحة، والتي أسست دولة شّر، ونفي، وغربة، وجوع، وقهر، وامتهان، وتأب على النسيان..وما زالت تذبح لأن بقاءها يقترن بالذبح، ويقوم على الإبادة!
(الكبار سيموتون، والصغار سينسون)!
على هذا راهن مؤسسو الصهيونية: على بث الرعب في نفوس الفلسطينيين مما سيدفعهم للهرب، وإخلاء أرضهم وبيوتهم، وتوريثها للغزاة، و..موت كبارهم في الغربة ونسيان صغارهم، وذوبانهم وتلاشيهم، وبهذا يضيع حق ليس وراءه مطالب!
يسن يروي:ولدت قبل المجزرة بثمانية أيّام، في الأول من نيسان، عام1948،لذا ربما كانت حياتي مجرّد كذبة متواصلة لا تتوقف،كذبة نيسان.
لكن حياة يسن، وهو ابن النكبة والمذبحة لم تكن كذبة، فهو ينتمي لجيل التشرّد والاقتلاع من الوطن، الذي راهن قادة المشروع الصهيوني على نسيانه وذوبانه في الشتات، وهو عرف أسباب اقتلاعه، ومن أسهموا في اقتلاعه،أي إنه قرأ التاريخ بدون تزوير، وأكاذيب، وتقديم أعذار، فعرف:يوما ما، ثمة من سيعيد كتابة التاريخ بحروف أُخرى،سيكتب أنهم لو أعطوا عبد القادر الحسيني السلاح لما سقطت القسطل، ولو لم تسقط القسطل لما سقطت دير ياسين، ولو لم تسقط دير ياسين لما سقطت فلسطين بذلك الشكل المهين المذل.(ص10)
ولأن الحكاية الحقيقية، بالدم، واللحم، والتدمير، وصيحات انتصار الغزاة المدججين بالسلاح، بالحديد والنار، ومشاهد الاغتصاب، وحرق الجثث، تنتقل إلى ذاكرة ابن الثمانية أيّام، وتكبر معه وعيا وغضبا وعهدا بالقصاص، وتتكرر بإلحاح من فم الأم، فإن الولد ابن الثمانية أيام الذي كبر تحت الخيام يروي: كنت طفلا فقط، ولم يكن لي ذاكرة آنذاك. ربما خزّنت عيناي في مكان ما، في أعماقها ما يمكن اجتراره فيما بعد، لماذا كلما استرسلت أمي في الحديث عن المجزرة شعرت بأنني عشتها لحظة لحظة، وبدا لي الأمر ذكريات، لا خيالات؟ ورث ياسين من الأم، من الجيل الذي راهن المشروع الصهيوني على اندثاره، الحكاية بتفاصيلها، فانغرست في ذاكرته، ولبثت حقائق دموية تستند على حقائق لا يمكن أن تندثر: دير ياسين احتلت، بعد التمثيل في جثث أهلها، وترويعهم، وأهلها شُرّدوا،ومن رمي بهم في للنسيان..لا ينسون، وهنا معضلة من خططوا، وقتلوا، وهدموا، ونسفوا البيوت على أهلها، وروّعوا وأمعنوا في الترويع لبّث الرعب من مشاهد( الهول) الجهنمي، فجيل يسن لا ينسى، وكما ملأت الأم ذاكرة ولدها ياسين، ملأ الجيل الراحل ذاكرة ياسينات، وهؤلاء، صبيانا وبناتا..أورثوا، وهكذا تنقل الذاكرة وعيا ومعرفة ووصايا برفض التشات، والنسيان، ويستمر، لا الحنين العاطفي العاجز، ولكن العهد بالعودة إلى دير ياسين وأخواتها،وكنس الاحتلال من على وجه الأرض الفلسطينية.
رواية ( يسن) تتكئ على الوقائع، تلّم بموقع قرية دير ياسين، وبحياة أهلها، وبموقعها كقرية جارة للقدس، وترسم حركة ناسها في ساعات المذبحة بالاتكاء على كتابات تاريخية دقيقة يتقدمها كتاب المؤرّخ الفلسطيني الكبير البروفسور وليد الخالدي( دير ياسين)، والاستفادة من حقائق استقاها من ذكريات نزيلة مستشفى الأمراض العصبية التي كانت شاهدة على المجزرة، ثم مضى بروايته، وأنشأ عملا روائيا بلا بكاء، ولا نواح، عملاً يفتح العيون، والعقول، والضمائر، يمنح القارئ وعيا بنوعية العدو الذي أجرم، أمّا التلقي فليس متعة، فالقارئ لا يتابع مسلسلة،أو فيلما، أو رواية تسلية، فهو يعيش تلك الساعات المخيفة، ويتابع متعة مخلوقات متوحشة تستمتع بالذبح، وبتشويه الأجساد، وبقر بطون الحبالى، ومن تُقترف الفظائع بهم هم بشر، عرب فلسطينيون، ومن يذبحونهم وينكلون بأجسادهم، ويمتهنون آدميتهم، ويستمتعون بصراخهم واستغاثاتهم هم ( مخلوقات) من صنف آخر، يخرجون من ظلمات التاريخ مدججين بالخرافات، وقوّة السلاح، وتواطؤ قوى( عظمى) ساعدتهم في التسلل إلى بلاد ليست لهم، وسلحتهم، ومكنتهم من امتلال قوّة تمكنهم من البطش، واحتلال بلاد ليست لهم...
ماذا تقول رواية يسن؟
تقول رواية ( يسن) ما لم تقله كتب التاريخ، وما لا يمكن أن يقال عن الساعات التي امتدت من الفجر حتى المساء. تقول الرواية حيوات تم نحرها، وتجسّد التفاصيل بكلمات، وجمل، لا جماليات، ولا إنشاء فيها، ولا مبالغات عاطفية مستجدية.
كاتب الرواية ولد بعد مذبحة دير ياسين، ولهذا أهمية قصوى، فهو من الجيل الذي روهن على نسيانه، وفراغ ذاكرته من انتمائه، وهويته التي تلّح عليه في كل لحظة أن يحققها، كي يتوازن كإنسان، ويستعيد حقه في أرضه، وكرامته، ويصحح خللا تاريخيا تواطأت على تثبيته قوى متعددة...
مُنح يسن،راوي الرواية، اسمه عن خاله، وخاله يحضر في الرواية عاشقا وضحية، ويتجلّى شخصية متميزة مدهشة تراجيدية المصير...
مشاهد الرعب بمذبحة دير ياسين وما تقترفه مجموعات القتلة بدير ياسين لا يمكن أن تلخّص،والروائي لم يؤلفها، بل لعله نسي تفصيلات عن وحشية المجندين والمجندات، ولذا أرجو أن يعذرني القارئ للرواية لتجنبي تلخيص الرواية، لأنني لو فعلت أكون قد أفقدت الرواية الهدف من كتابتها، والقارئ إن كان فلسطينيا لا بد أن يقرأها حرفا حرفا، كلمة كلمة، وإن كان عربيا، ويهمه أن يتسلح بوعي معرفة (جوهر) هذا العدو التوراتي، وحقيقة ما جرى في دير ياسين، وما جرى بعد بعد دير ياسين في مسلسل المذابح حتى مدرسة ( بحر البقر)، مرورا بدفن الجنود المصريين أحياءً في رمال صحراء سينا...
يبدأ الفص 3ب: ياسمين ، زوجة خالي ياسين، أجمل امرأة في فلسطين. التقيا ذات مرّة في القدس. كانا قد شاركا في مظاهرة انطلقت من باب العامود نحو سجن القشلة، حين كان المندوب السامي الن غوردون كاننغهام في زيارة تفقدية للسجن، واستغلت القوى الوطنية تلك الزيارة، ودعت الناس للخروج كي يعبروا عن غضبهم على ممارسات بريطانيا القمعية ضد العرب، ومحاباة اليهود..يومذاك، التقت أعينهما أول مرّة، وهو يسقط على الأرض، وتدوسه أقدام البوليس. حين أفاق، حين فتح عينيه في عيادة السجن، كان أوّل ما تذكره وجه ياسمين.( ص42)
حكاية عشق ياسين لياسمين، وزواجهما بعد تمكن ياسين من تحقيق الشرط الذي اشتطرته ياسمين عليه، وعلى من سبقوه، وزواجهما، لم تحقق لهما السعادة التي حلما بها.
ياسين أخذه حب ياسمين وحوّله من شاب حيوي الحضور، حجّار في بلدة تشتهر بالحجّارين، وصقل الحجارة إلى شبح، حتى دهش الناس. ومن بعد عرفوا أن عشقه للبنت المدنية طيّر عقله، وأنها لن ترضى بالزواج من فلاّح، وأمام تدهور حالة ياسين يوافق جده، شيخ المسجد، على إرسال الجدة مع ياسين لتجس نبض أهل البنت، وترى إن كانوا يوافقون على تزويجها له، قبل التوجه بالجاهة للشروع في إجراءات الزواج، في حال تمت الموافقة.
الخال يتغيّر فورا، فيحلق، ويرتدي ملابس أنيقة، وعادت له الابتسامة.
الرجل الذي استقبلهما لم يكن والد ياسمين، ولكنه عمها، لأن والدها كان قد مات. ترفض الأم طلبهما، وتخبرهما بأن البنت مخطوبة، فتقف الجدّة، امّا هو فيعجز عن الوقوف وهو يسأل: لمن هي مخطوبة؟ فتنهره الجدة: ليس من حقك أن تسأل.
أنا موافقة بشرط.
قالت ياسمين فجأة وهي تدخل من الباب.(ص45)
أنا موافق...قال بلهفة دون أن يسمع الشرط.
وسط دهشة أمها وعمها، تجيب على سؤال ياسين:
-أن يكون مهري حياة وليام جاك.
-ماذا فعل وليام جاك حتى تكون حياته مهمة إلى هذه الدرجة؟
-قتل أبي. قالت.(ص47)
-موافق. قال ياسين، رغم تحذير الأم والعم، فهو سيموت حتما قبل قتل وليم جاك الضابط البريطاني.
-إن مت سأموت شهيدا...
حكاية الحب الذي دفع ياسين للمخاطرة بحياته، سعيا لتحقيق شرط ياسمين للزواج بمن ينجزه، تضع الصراع في فلسطين في إطاره التاريخي: عرب فلسطين في مواجهة تحالف بريطاني صهيوني، وكلاهما أجرما، ومعا أسسا لكل ما لحق بفلسطين وأهلها.
قبل ياسين فشل عشرة في تحقيق شرط ياسمين للزواج، ولكنه نجح بصبر ودهاء وذكاء...
بعد عملية قام بها بهجت أبوغربية ورفيقه سامي الأنصاري، ونجاحهما في قتل ضابط إنقليزي من أصل يهودي تمادى كثيرا في الاعتداء على أهالي القدس، وتحطيم محالهم التجارية، واستشهاد الأنصاري لجأ بهجت أبوغربية إلى بيت صديقه والد ياسيمن، وأثناء تفتيش الجنود الإنقليز للبيوت تصدى لهم والد ياسمين لمنعهم من اقتحام بيته، فضربوه حتى سقط على الأرض، وكان يحاول إشغالهم حتى يُمكّن بهجت من الابتعاد والنجاة من الإنقليز.
وضع وليام مسدسه في جبهة أبيها..وفي تلك اللحظة بصق أبوها الدماء في وجهه، فأطلق عليه النار.(ص52)
أثناء مذبحة دير ياسين يتناوب مجرمو العصابات على هتك شرف ياسمين، ويعذبون ياسين بجريمتهم أمام عينيه، وهو يقاوم، ومن بعد، بعد قتلها..يقطعون لسانه، ويتركونه عبرة!
على جسدي ياسمين وياسين وروحيهما حُفرت جرائم بريطانيا والعصابات الصهيونية، وياسين يكتب هذا في مذكراته التي دونها بعد النكبة، فهو وإن فقد القدرة على الكلام، لم يفقد القدرة على كتابة (شهادته) للاتين من الأجيال الفلسطينية.
ياسين ابن الأخت( يرث) مذكرات خاله، وتحليله الواعي لأسباب النكبة، ويمضي ببصيرة رائية حادة لتحديد وتشخيص كل من أسهموا في ( نكبة) فلسطين، بمن فيهم ( الاتحاد السوفييتي) آنذاك، وهو بذلك ( يدين) الشيوعيين العرب الذين تبعوا الاتحاد السوفييتي في الموافقة على التقسيم، الذي نافس أمريكا ترومان على الاعتراف( بدولة) العصابات الصهيونية.
هذه الرواية لا يمكن تلخيصها، وأنا كتبت عنها بحذر، وبعد قراءتين معمقتين متأملتين، وهي في جانب منها تقدم خطابا يعزز وعي الأجيال الفلسطينية، والعربية بعامة، بجوهر الصراع، وبعمقه، وبأبعاده، فلم يكن هم كاتبها وصف( المذبحة)، ولكن وضع ( العالم) الظالم المتوحش الجشع العنصري اللاأخلاقي( كله) بدون نفاق سياسي على حساب قضية أمّة مزقها المستعمرون بأنيابهم، وفتكوا بقلبها: فلسطين...
شخصية ياسين الخال، وشخصية ياسين ابن الأخت، وابن النكبة تقول أكثر من سردية مثيرة صادمة، لذا أدعو لقراءتها، وتأملها، والتوقف عند خطابها، حتى لا ننسى، ولا نُخدع، ولا يضللنا من يتآمرون، ويتنازلون، ويعانقون القتلة، ويتلاعبون بالذاكرة وبالوعي لتحقيق مكاسبهم الآنيّة الحقيرة.
لا تنتهي الرواية قبل أن يرتفع صوت بائع الصحف اليومية بأنباء مجزرة مروّعة، هي مجزرة صبرا وشاتيلا، وخروج يسن إلى الشارع وهو يرتدي ملابسه مقلوبة، وتعلّق امرأة جارة: أنت تلبس ثيابك بالمقلوب يا بني. فيرّد عليها: وأنت عليك أن تنتبهي، يا خالتي، فأنت أيضا تلبسين ثيابك بالمقلوب.
تركتها تحدّق إلى ثوبها بدهشة، وتتفقده...ورحت أغذ السير عائدا إلى فلسطين.
ارتدى يسن ملابسه بالمقلوب، وكان من قبل يرى الأشياء مقلوبة،ولكنه متسلحا بالوعي، ورفض الشتات.. يمضي إلى فلسطين، فهذا هو خياره، وخيار أجيال ما بعد النكبة، ورغم كل المجازر، وهو ما يعني، حتما، هزيمة مقولة، وفشل المشروع الصهيوني: الكبار يموتون، والصغار ينسون...
رواية يسن تقول هذا وأكثر، وكل ما فعلته بمقالتي هذه، لا يعدو أن يكون دعوة لقراءة رواية هامة، مُلهمة، مُحرّضة للذاكرة، والوعي، ومؤشرة للطريق المؤدي لفلسطين برؤية ترى الأشياء بتمام الوضوح، وتقول ما يجب أن يقال...
* صدرت الرواية في العام 2021عن منشورات الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، رام الله.
*أحمد أبوسليم شاعر، وروائي، يشق طريقه صاعدا منذ روايته ( الحاسة صفر)، وهو مهندس كهرباء تخرّج من الاتحاد السوفييتي.


www.deyaralnagab.com