logo
اليوم مات وأورث أولاده حلما حيّا بالعودة.. أبو حسن… النكبة حرمته من والدته وعلم بوفاتها يوم عرس ولديه!!
بقلم : وديع عواودة  ... 24.06.2022

الناصرة:أنشر هذه القصة الحقيقية وكنت نشرتها للمرة الأولى مع بداية طريق العمل في الصحافة في صحيفة “كل العرب” عام 1998 عندما تولى رئاسة تحريرها الشاعر الراحل سميح القاسم فقرأ المادة وفي ذات اليوم سلّم كاتب هذه السطور مذكرة بتعيينه محررّا فيها بعد ثلاث سنوات من العمل فيها مراسلا شابا. اليوم رحل أبو حسن “بطل” هذه القصة التي يتفوّق فيها الواقع على الخيال وإن كانت النكبة قد أنتجت الكثير من مثلها، وهو دون الثمانين من عمره بعدما اختطف المرض نجله في العام الماضي ومن وقتها غطّ في حزن شديد لم يكن بوسعه حمله.جاء في النشر المذكور عن قصة الفراق واللقاء المترامية أطرافها بين بحيرة طبرية وبين بحر عكا: “ما أن رنّ جرس الهاتف في بيت محمد مصطفى مطير، أبو حسن (53 عاما) في قرية شعب قضاء عكا مرة واحدة فقط حتى انقضت ابنته على “السماعة” وإذا بصوت على الطرف الثاني من الخط يقول بانفعال: “نحن في الطريق… استعدوا”. عندها عرفنا أن أبا حسن في طريقه للبيت بعدما كان انطلق فجرا في سيارته وبرفقة أفراد عائلته إلى جسر “اللنبي” في أريحا لاستقبال شقيقه فاعور(45 عاما) وشقيقتيه فاطمة (61 عاما) ويسرى (49 عاما) وقد سبق والتقاهم مرة واحدة فقط في الأردن بعد أن هجرّتهم العصابات الصهيونية من مسقط رأسهم في قرية سمخ جنوب بحيرة طبرية عام 1948 إلى قرية “أم قيس” الأردنية في قمة التل المطل على ينابيع الحمّة.”من أم قيس كنا نشاهد قريتنا كل يوم ونحرم من النزول إليها”، قالت العائدة فاطمة أم محمد، بعد وصولها الى بيت شقيها.
جلست أم محمد وشحذت ذاكرتها فعادت بنا إلى بداية درب الآلام..إلى تلك الليلة التي غادرت فيها برفقة والديها وإخوتها بيتهم في قرية سمخ تاركين وراءهم شقيقهم الطفل محمد مصطفى ابن الـ 5 سنوات الذي بقي في بيت خاله في قرية شعب قضاء عكا وانقطعت أخباره عنهم ولم يكونوا يعلمون ما إذا كان في عداد الأموات أم الأحياء مدة عشرين عاما.
*لحظة اللقاء أقوى من لحظة الفراق؟
حينما أجرى أبو حسن اتصالا مع بيته بواسطة مكالمة من هاتف عمومي في الشارع مداخل مدينة العفولة في طريق عودته من “الجسر” في أريحا كنا ننتظر داخل بيته “الضيوف” العائدين إلى أوطانهم بعد 45 عاما في الغربة والشتات.. وكان خبر وصولهم قد خلق في فضاء البيت جوا من البهجة والفرح المشوب بالتوتر واللهفة لدى أبناء أبو حسن الذين استعدوا لرؤية العم والعمات الذين لم يألفوا وجوههم سوى عبر الصور الفوتوغرافية المحملّة في رسائل الشوق المنقولة عبر الصليب الأحمر.
ومضت ساعة تقريبا كانت طويلة جدا وإذا بالأولاد الذين كانوا تجمعوا في ساحة البيت يرددون صيحة الفرحة “أجوو.. أجو..” فأسرعنا إلى الخارج لمعاينة لحظة لقاء الأقارب التي لم ربما تقل حدة وانفعالا من لحظة الفراق.. وما أن أوقفت السيارة عجلاتها وفتحت أبوابها حتى تزاحمت العناقات وانهمرت دموع الفرح باللقاء المتجدد بسخاء وأخذت أم محمد وأم علاء وأبو فارس يقبلون بعشوائية كل من كان في الانتظار وأسارير الفرحة ترتسم على وجوههم بوضوح. ولم تمر دقائق قليلة حتى امتلأ البيت بـ الأقارب والجيران الذين وفدوا إليه من كل صوب.. لتقديم التحيات والتهاني فرحين ومتضامنين مع أبو حسن الذي قطعته النكبة عن أخبار أهله طيلة سنوات كثيرة موجعة.. فتولى خاله أبو سميح تربيته ورعايته وهو طفل حتى كبر وتزوج من ابنته ورزق بثمانية أولاد وله اليوم عشرة أحفاد.. فملأت حبة القمح الحقول سنابل..”
*لوعة الفراق
وعن حكايته حكاية الشعب الفلسطيني حدثتنا أم محمد وقتها فقالت وفرحة اللقاء قد أنستها مرارة الماضي: “أذكر أن خالي زارنا في سمخ في مطلع 1948 ثم عاد بعد عدة أيام واصطحب معه شقيقي الطفل محمد، وكان بالخامسة من عمره وقتها، إلى بيته في قرية شعب. وبعد شهرين سقطت سمخ بيد فرقة من عصابة “الليحي” الذين هاجموا البيوت تحت جنح الظلام وأمطرونا بالرصاص فهربنا إلى “أم كيس/ قيس” الأردنية في ذات الليلة بحثا عن النجاة من موت محتّم فبقي محمد لدى خالنا ولم نتمكن من مجرد التفكير به..”
وتسترسل أم محمد فاتحة صناديق ذاكرتها:”بعد عدة أشهر التقى أبي مع ابن خالي أبو سميح وهذا أعلمه أن خالي الثاني قد استشهد في الحرب أما محمد فهو حي يرزق فطمأنونا قليلا وكونه في بيت خالنا قد خفف لوعة الفراق…”.
*وضعت ثياب طفلها في مخدة 15 عاما
وعن مشاعر أمها بعد افتراقها القسري عن ابنها فتقول أم محمد”من أجل إطفاء الأشواق التي كانت تهب في عروقها التقطت أمي ثيابه ووضعتها داخل مخدة كانت تنام عليها ولا تغفو قبل أن تقبلّها مرة تلو المرة.. وعلى مدار 15 عاما وبالتالي قمت بإعطاء المخدة للجيران تخفيفا لآلامها”.
وعن فرحة العودة المؤقتة عبرّت أم محمد برضا كبير :”لم استوعب ما يجري بعد.. ولا زلت أخال أنني في الأردن …وكنت أرى محمد في عيون روحي ما زال طفلا بالخامسة..أكاد لا أصدق أنني في بيت شقيقي الآن وهو رجل محاط بأولاده وأحفاده بعدما تركناه طفلا عمره بأصابع اليد الواحدة..”.
*علم بوفاة أمه في يوم عرس ولديه
أما أبو حسن فقد قصّ علينا ما حفظته ذاكرته عن أيام طفولته فقال “نشأت في بيت خالي ولما كبرت سردوا علي حقيقة ما جرى وبقيت في صراع بين الشك واليقين حتى 1968 حيث ذهبت إلى نابلس وهناك تمكنت من التأكد من حقيقة وجود أهلي في مدينة إربد في الأردن. وكان أول لقاء لي معهم في نفس العام حيث زارنا أمي وأبي لمدة شهرين ولم استطع التعرف عليهما لوحدي لأنني لم أذكر شيئا من ملامحهما… فكان هذا اللقاء الأول والأخير مع الأمومة الحزينة والمنكوبة…بعدما أن كنت قد تزوجت من ابنة خالي حيث تركتني أمي طفلا لتراني رجلا له زوجة وأطفال.. وفي عام 1985 زارنا بعض الأقارب من الأردن في يوم عرس ولدي حسن وحسام وكان أول ما سألتهم عن أمي والإخوة فأخبروني بوفاتها فكان ذلك نبأ مفجعا ومحرقا إلى أبعد الحدود…”. وكان أبو حسن وحينما وصل في قصته إلى هذه المعلومة قد أجهش بالبكاء نادبا حظه وقدره. وبعدما مسح دمعته وغسل وجهه بالماء عاد واستطرد حكايته وسأل شقيقه – ضيفه عن عمر أخته آمنة …فقال”سمعت خبر وفاتها في شباط الماضي من الراديو الأردني فبعثت برقية تعزية لهم بواسطة الصليب الأحمر .. أما شقيقتي الرابعة ميسّر فلا أعرفها إطلاقا إذ توفيت منذ زمن بعيد”. اليوم في شعب توفي أبو حسن نفسه ودفن فيها مورثا حلمه لأولاده وأحفاده بالعودة للمنزل الأول إلى سمخ جنوب طبرية الذي أوصى ذريته بالتشبّث بحلم العودة له مهما طال الزمان”.
“رحمة الله عليك جاري الغالي، لقد كنت نعم الجار والصديق والشريك في همّ اللجوء،لم التق رجلا قلبه واسع ومعدنه بهذه الطيبة مثلك”، قال عيسى حجاج من قرية شعب وهو الآخر مهجّر (من بلدة كراد الغنامة في سهل الحولة) راثيا صديقه. ويضيف في حديثه لـ “القدس العربي”:”بادل أهالي قرية شعب ومعظمهم مهجرّون في وطنهم العزيز أبو حسن الله يسهّل عليه الحب بالحب والوفاء بالوفاء وهذا ما يبررّ مشاعر الفجيعة والأسى لديهم كبارا وصغارا فقد كان رمزا للفلسطيني المكافح المؤمن بعدالة قضيته وحتمية استعادة الحق السليب والمحب لأهله ومجتمعه وشعبه
*المصدر : القدس العربي


www.deyaralnagab.com