أحدث الأخبار
الجمعة 15 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
عروسان بين الأنقاض!!
بقلم : سهيل كيوان ... 11.07.2024

منذ اندلاعها، تشغل حرب الإبادة في قطاع غزة مئات الملايين من العرب وأحرار العالم، فهي حربٌ فريدة من نوعها، هي حرب محلّية جداً ولكنّها عالمية.
حتى عندما يكون شخصٌ ما وحيداً، تذهب أفكاره إلى الحرب، إذا ما شاهد فضائيات، وإذا تصفّح وسائل التواصل الاجتماعي، فهي مكتظّة بالصُّور والأشرطة القادمة من القطاع، والكثير من المشاهد من الضّفة الغربية، ومن جنوب لبنان، ومن اليمن والسُّفن المستهدفة، والنّاطق العسكري باسم القوات المسلحة اليمنيّة العميد يحيى سريع، وطريقته ونبرته الخاصّة جداً في إلقاء بيانات القوات المسلحة اليمنية، القاف التي تلفظ مثل الجيم المصرية، وختام البيان المميّز الذي يحمل الطابع الديني والاعتزاز الكبير باليَمَن.
مشاهد الأطفال يحملون أواني لملئها بشيء من طعام أو ماء، وصور أجساد تحتضر برزت عظامها بسبب الجوع، ونساء ورجال وأطفال يودّعون أعزاء لهم، بعضهم بعويل مُرّ وبصمت، وبعضهم بكلمات غاضبة متحدّية، وأخرى فيها الاحتساب والاستسلام لقضاء الله وقدره.
طفل يبتسم، رغم الغبار والسّخام الذي يكسوه بعد الغارة ونسف عمارات، قد يكون الناجي الوحيد من أسرته، وأسرة في الشّمال أعدّت ربَّتُها حساءً من الأعشاب، وكهل يعلن إصراره على البقاء في مكانه بعد أن نزَح مرّتين، لا يريد نزوحاً للمرة الثالثة، ثم يتوفاه الله بعد دقائق من حديثه لأحد الصحافيين.
نبهان، الرَّجل المًسن الجميل، الذي عُرف في العالم بمشهد «روح الرّوح» يحتضن الحفيدة الجديدة التي رزق بها قبل يومين، نبهان يؤذّن في أذن حفيدته الجديدة التي أطلق عليها اسم روجاد.
طبعاً، الأشرطة التي تنشرها كتائب القسّام، والسّهم الأحمر الذي منعته ألمانيا بقرار من البوندستاغ؛ لم يثر النواب الألمان مقتل خمسة عشر ألف طفل، ولم ير النواب فيه عملاً إرهابياً مستمرّاً متعمّداً، بينما استفزهم السَّهم الأحمر. وطبعاً، كانوا أول المعلنين عن قصف مستشفى أطفال في كييف قبل يومين بأنه جريمة حرب، وقد قتل في القصف أربعة أطفال. طبعاً، فإن قصف مستشفى هو جريمة حرب بغض النظر عن عدد الضحايا، كانوا أربعة أو مئات، ولكن ماذا عن الخمسة عشر ألف طفل فلسطيني يا بوندستاغ؟
من بين الموت والدمار، تُنشر حفلات للأطفال للترويح عنهم، فترى كم هم محبّون وتوّاقون إلى الحياة، وأخرى لحفلات زفاف، بعضها لأكثر من عروسين، في إحداها تظهر الفتاة بملابس الزَّفاف البيضاء، والشّاب في حلّة فرح سوداء، يسيران بين أنقاض المباني.
في الحالات الطبيعية، تُلتقط هذه الذكرى من حياة العروسين، في الحدائق العامّة، على خلفية من الأزهار، أو مبنى تاريخي، أو مَعْلم مميّز، أو على شاطئ البحر، ولكنهم أخذوها في لحظتهم المميزة بين الأنقاض، فحقّق الفيديو أكثر من مليون مشاهدة خلال أيام قليلة.
الناس يحبّون مشاهد الحياة، ويريدونها لهؤلاء بالذات الذين يتعرّضون لخطر الإبادة في كل لحظة، ينهضون كالعنقاء من الرّماد.
الفتاة في التاسعة عشرة، والشّاب يكبرها بعامين، كلاهما فقد مأواه الذي دُمِّر، كلاهما نازح، كلاهما يعيش في الخيام، وقد اختارا أن يرتبطا برباط الزّواج المقدّس.
على الشّاب أن يأخذ موافقة والدها الذي لم يستشهد، ولم يُجرح، ولم يؤسَر، ولم ير ابنته منذ أكثر من تِسعة أشهر إلا من خلال شاشة الهاتف، وهو ما كان يمارسه قبل الحرب، عندما كان يتأخر في العودة إلى بيته لأسابيع، يمكث في شمال فلسطين كعامل بناء مع أحد المقاولين العرب.
كان قد حصل على ترخيص من الاحتلال للعمل في داخل مناطق الـ 48، كان ذلك قبل الحرب، عمل حسب خطّة رسمها لنفسه مثل أكثرهم، يعمل شَهراً، وعندما يتلقّى راتبه من المقاول، يعود إلى قطاع غزّة لقضاء نهاية أسبوع في أحضان أسرته، يسلّم الأسرة المال الحلال، ويعود إلى العمل مرّة أخرى في المستوطنات القريبة من الشّريط الحدودي مع لبنان.
بعد أسبوع واحد من دخوله الأخير للعمل، اشتعلت الحرب، وأعلن الاحتلال أنّ على جميع العمال من قطاع غزة العودة إلى داخل القطاع.
عاد آلاف العمال إلى القطاع، واعتقل الآلاف منهم، وما لبثت أن نُشرت فيديوهات تُظهر ما لاقوه على المعابر من نهب لأموالهم، وتقييد بعضهم ببعض عراةً ومعصوبي الأعين، وهم يتلقون الضَّرب والجَلد حتى انبجاس الدّماء من أجسادهم المثخنة، التي كانت قبل يوم واحد تبني وتشيِّد في مدن وبلدات إسرائيل، من بئر السّبع وديمونة جنوباً، مرورًا بتل أبيب في المركز، حتى «كريات شمونة» ورأس الناقورة شمالاً.
كان هؤلاء العمال محظوظين، لأنّهم يحصلون على تصاريح عمل داخل مناطق الـ 48، فالبطالة في القطاع اتّسعت بسبب الحصار الطويل، وأجرة العامل منخفضة جداً.
خشي كثيرون من العمال والتّجار من العودة إلى القطاع، ولجأ آلاف منهم إلى الضفة الغربية، يعيشون في ظروفٍ سيئة، ولكنها أفضل من الاعتقال.
إضافة إلى الأخبار المحزنة التي تصلهم من القطاع بفقدان أحباء، فهم معرّضون للاعتقال في كل لحظة، لأنّ إقامتهم في الضفة الغربية «غير شرعية»، بحسب شريعة الاحتلال.
قلّة منهم غامروا بالبقاء داخل مناطق الـ 48، على أمل توقّف الحرب بسرعة، ومن ألقي القبض عليه منهم، تعرّض إلى أضعاف ما تعرّض له إخوانه من ضرب وتنكيل وإذلال ودوس على إنسانيته.
في قطاع غزّة مِثل سائر فلسطين والأمة العربية، من يرغب بالزّواج، يُرسل أهله لطلب يد الفتاة من ذويها، عادة بعد أن يكون قد جسّ النبض لديها عن طريق قريب أو قريبة لها، أو زميلة لها في مكان عملها، أو بتواصل مباشر معها، في مكان العمل مثلاً، فيحصل على موافقتها ويتقدّم.
بعد أن أخذ موافقتها، هاتف الشّابُ والدها المقيم في الضفة الغربية، ومن خلال الصُّورة والصوت طلب يد كريمته: «عمّي، أنا فلان ابن فلان الفلاني أنت تعرفني، أنا طالب يد كريمتك فلانة»!
أخذ الوالد رأي ابنته التي كانت مستعدّة للموافقة، فبارك لهما عبر محادثة بالصوت والصورة. وقال كالعادة «إذا الله أعطاك أنا أعطيتك».
-ما المهر الذي سنتفق عليه؟
-المَهر الذي أطلبه هو بدلة عروس بيضاء لابنتي، تشتريها أو تستأجرها، أريدها أن ترتدي ثوباً أبيض، كي تشعر بأنّها عروس، ولا أريد شيئاً أكثر من هذا. وعلى هذه النيّة… الفاتحة.
وما لبث الشّاب أن كتب عقد الزواج على عروسه، واستأجر ثوب زفاف للعروس، وعيّنا لهما يومَ وساعةَ الزّفاف، وطافا بين أنقاض المباني المهدّمة، وانتقل الفيديو إلى مواقع التواصل، وخلال أيام حصد أكثر من مليون مشاهدة.
لماذا يحصل مشهد كهذا على هذه الأعداد الهائلة من المشاهدات!
ببساطة، لأنّ الناس يحبّون الحياة، وتواقون إلى حياة طبيعية مثل بقية البشر، وفيه يبدو العروسان كأنهما طائر الفينيق وهو منبعث حيّاً من الرّماد، تنهض طيور غزّة دون أن تنسى أحزانها، تتجدَّد رغم الجراح والآلام.

1