|
صحافة ..لوموند: سوريا بعد الأسد.. تحوّل غير مكتمل لأحمد الشرع.. الإسلامي المتمرّد الذي أصبح رئيساً!!
08.12.2025
باريس: تحت عنوان “في سوريا.. التحوّل غير المكتمل لأحمد الشرع… الإسلامي المتمرّد الذي أصبح رئيساً”، قالت صحيفة “لوموند” الفرنسية في الجزء الأول من بورتريه مطوّل لها عن “سوريا ما بعد الأسد” (1/5) إن أحمد الشرع تمكّن من إسقاط النظام البعثي وكسر عزلة بلاده الدولية، لكن داخل البلاد ما يزال هذا “الجهادي التائب”، الذي يحكم مع حفنة من المقرّبين، عاجزاً عن نزع فتيل التوترات الطائفية والإثنية المتوارثة من الحرب الأهلية.
**وجد الشرع نفسه فجأة، من قيادة جيب إدلب المتمرّد منذ 2017، في موقع إدارة دولة منهكة بـ14 عاماً من الحرب الأهلية
ببدلته الزرقاء المفصّلة ولحيته المشذبة بعناية، يتقدّم أحمد الشرع درجات قلعة حلب، يوم السبت الـ29 نوفمبر. الرئيس السوري الانتقالي، الذي لا يحبّ الاختلاط بالجماهير، يخفي خجله وراء ابتسامة ودودة. كعادته، خطابه وجيز، لكنه متقن الصياغة. في الذكرى الأولى لتحرير كبرى مدن شمال سوريا من سطوة آل الأسد، يحثّ الشعب السوري على إعادة إعمار البلاد وكتابة صفحة جديدة من تاريخها، تضيف “لوموند”.
قبل عام واحد فقط، كان يدخل حلب ببزّة عسكرية تحت اسمه الحركي “أبو محمد الجولاني”.. حينها كان يقود جماعة “هيئة تحرير الشام” ذات التوجّه السني المتشدّد، والتي باغتت الجميع باختراق دفاعات النظام. قال يومها لجنوده: “النصر الحقيقي ليس فقط في المعركة الحالية، بل في ما سيليها”، واعداً ببناء “سوريا الجديدة” على مبادئ العدل والمساواة، تشير “لوموند”.
بعد أيام قليلة، في 8 ديسمبر 2024، سيطر الجولاني على دمشق، وأنهى 54 عاماً من حكم عائلة الأسد، واستعاد اسمه الحقيقي: أحمد الشرع.
ووجد نفسه فجأة، من قيادة جيب إدلب المتمرّد منذ 2017، في موقع إدارة دولة منهكة بـ14 عاماً من الحرب الأهلية. ففي تسارع استثنائي للتاريخ، تحوّل الجهادي السابق إلى رئيس للدولة، تقول “لوموند”.
الدبلوماسيون ورجال الأعمال الذين يترددون اليوم على قصره يصفونه بأنه حازم، بارع تكتيكياً، لكنه أيضاً حسابي ومولع بالسلطة. مزيج من الإعجاب والحذر يليق برجل عاش سنوات من التخفي بهويات متعددة ويتقن التواصل السياسي بمهارة.
فمن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تبنّاه سياسياً، إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي استقبله في البيت الأبيض كأول رئيس سوري تطأ قدماه المبنى، مسيرة الشرع تثير الإعجاب، رغم مناطقها الرمادية وأخطاء تقديرية تهدّد انتقال السلطة، تقول “لوموند”.
في العواصم العربية والغربية، حيث لا يُرى بديل واقعي عنه، يُعامَل الجهادي التائب كـ“رجل اللحظة”. فقد نجح، حين كان اليأس مسيطراً، في تحقيق الهدف الأكبر للمعسكر المناهض للأسد: ليس فقط إسقاط الديكتاتور، بل أيضاً إخراج سوريا من “محور المقاومة” الإيراني ومن الهيمنة الروسية.
فهم أحمد الشرع أن كسر عزلة سوريا يبدأ بالاتجاه نحو الغرب.. يناور بحذر لتفادي السيطرة التركية عليه، ويعزّز علاقاته بالسعودية، مفتاح عودة سوريا إلى الساحة الإقليمية والدولية. يقبل التفاوض مع إسرائيل رغم ضرباتها المستمرة في سوريا. ويتباحث مع “قوات سوريا الديمقراطية” لدمج القوات الكردية في الدولة الجديدة. وبدأ التعاون مع التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، الذي انضم إليه رسمياً في شهر نوفمبر المنصرم، تتابع “لوموند”.
الدبلوماسيون ورجال الأعمال الذين يترددون اليوم على قصره يصفونه بأنه حازم، بارع تكتيكياً، لكنه أيضاً حسابي ومولع بالسلطة
*تربية على العلم والانضباط
على عكس قاعدته الاجتماعية ذات الغالبية السنية المحافظة، والمتعطشة للانتقام من الطائفة العلوية التي ارتبطت بالنظام السابق، يعد أحمد الشرع بضمان التعايش بين جميع المكوّنات الدينية والعرقية، ويعلن العفو عن عناصر النظام السابق الذين “لم تتلطخ أيديهم بالدماء”. يتبنّى خطاً دينياً معتدلاً يلقى قبولاً واسعاً بين السنة، ما أغضب السلفيين الذين يطالبون بتطبيق كامل للشريعة. إلى جانبه زوجته لطيفة الدروبي، أمّ أطفاله الثلاثة، وتقوم بدور السيدة الأولى وهي محجّبة ببساطة، تواصل “لوموند”.
تنقل الصحيفة عن الباحث السوري رضوان زيادة قوله: “أدرك أحمد الشرع أن حكم سوريا لا يمكن أن يتم برؤية إسلامية متشدّدة. تعلّم الكثير من تجربة إدارة إدلب ومن أخطاء طالبان”.. لكن هذا كلّفه استياء بعض رفقاء السلاح السابقين. كما تنقل الصحيفة عن الخبير السوري حسام جزماتي قوله: “العلاقة مع أمريكا وروسيا وإسرائيل، ورفض تطبيق الشريعة… كل ذلك يثير التململ، وإن كانوا ما زالوا يدعمونه”.
في الـ8 ديسمبر 2024، احتفل الشرع بالنصر في الجامع الأموي بدمشق، ثم زار سراً حي المزة حيث نشأ بعد سبع سنوات قضاها طفلاً في السعودية. وكانت عائلة موالية للنظام السابق قد استولت على شقة عائلته. تقول الجارة مايا عزيم: “طلب منهم مغادرة الشقة، لكن بأدب. منحهم شهراً”. ووصفته هذه الجارة بأنه كان طفلاً “هادئاً ومؤدباً وخجولاً”.
كان والده اقتصادياً عمل في قطاع النفط، ووالدته مدرّسة جغرافيا، وعمل مع إخوته في بقالة العائلة بعد المدرسة. جدّه كان من قادة المقاومة ضد الانتداب الفرنسي، ووالده حُرم من أراضٍ في الجولان المحتل، ما جعله يتخذ لاحقاً لقب “الجولاني”. كان أكثر تديّناً من أقرانه، يرتاد مسجد الشافعي ذا التوجه المعتدل.
يقول الشيخ عمّار غنّام: “نحن مدرسة الحرية. لذلك نشأ طلابنا أحراراً لا يقبلون بديكتاتورية”، تذكّر “لوموند”.
“سقوط في التطرّف”
استيقظ وعيه السياسي مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. ومع أحداث الـ11 سبتمبر وحرب مكافحة الإرهاب، صعد التيار الإسلامي السني. أطلق لحيته وارتدى اللباس السلفي.
يقول الشيخ غنّام: “كان معتدلاً، لكنه رأى ظلماً فسقط في التطرّف”.
في مارس عام 2003، اختفى، حيث توجّه سراً إلى العراق عبر حافلات سهّلها النظام السوري للتخلّص من الشباب السنة المتحمسين لـ“مقاومة الاحتلال الأمريكي”. في الموصل، انضم لتنظيم سلفي سرعان ما بايع “القاعدة”. تعلّم صناعة المتفجرات، قبل أن يُعتقل عام 2005، ويُسجن في أبو غريب.
أُفرج عنه في مارس عام 2011 مع انطلاق الثورة السورية.. وأقنع أبو بكر البغدادي بإرساله إلى سوريا مع ستة رجال و50 ألف دولار لتأسيس فرع “القاعدة”: “جبهة النصرة”. وسرعان ما أصبحت القوة الأكثر فعّالية بين الفصائل المعارضة، ونفّذت هجمات انتحارية دامية واستثمرت في الخطف لتمويل نفسها، بما في ذلك خطف الراهبات في معلولا، تذكّر “لوموند” دائماً.
*تُتخذ القرارات في دائرة ضيقة من 5 أو 6 أشخاص، بينهم شقيقاه ماهر- الذي أصبح أميناً عاماً للرئاسة- وحازم المستشار الاقتصادي
ثم توترت علاقته مع البغدادي عام 2013، فانفصل الجولاني عن “داعش” وبايع الظواهري. وفي 2016 قطع ارتباطه بـ “القاعدة”، ثم أسّس “هيئة تحرير الشام”. وأطلق نموذج حكم محلي في إدلب بات الأكثر تنظيماً في سوريا.
الصعود العسكري والانقضاض على النظام
بنى قوّته خلال خمس سنوات، لا سيما في الوقت الذي كانت فيه روسيا منشغلة بأوكرانيا، و”حزب الله” بالحرب مع إسرائيل.. في الـ28 نوفمبر عام 2024، شنّ هجوماً واسعاً بغطاء تركي، واستعان بأصدقاء قدامى في صفوف النظام لإبرام اتفاقات استسلام، وبشبكات مخبرين داخل مناطق النظام، وأقنع موسكو بوقف القصف عبر مبعوثه أسعد شيباني.
سقطت حلب وحماة وحمص تباعاً. وبعد 11 يوماً، دخل دمشق الفارغة بعدما فَرّ بشار الأسد إلى موسكو. وأعلنت فصائل الثورة الجولاني رئيساً انتقالياً يوم الـ29 يناير. وعد بانتخابات خلال أربع سنوات وصياغة دستور جديد. لكن الخطوات كانت متسرّعة لإرضاء المجتمع الدولي.
يقول رضوان زيادة: “لا يمكن حكم سوريا مركزياً كما فعل آل الأسد”.
ويضيف دبلوماسي غربي: “السلطة ليست ديمقراطية، فهي متمسكة بالبقاء”. أما داعموه الإقليميون فيقدّمون نموذجاً “تنموياً استبدادياً” بديلاً عن الديمقراطية.
تُتخذ القرارات في دائرة ضيقة من 5 أو 6 أشخاص، بينهم شقيقاه ماهر- الذي أصبح أميناً عاماً للرئاسة- وحازم المستشار الاقتصادي.
لا قدرة على تفويض السلطات، ما يخلق انطباعاً بالارتباك والضغط الدائم، تقول “لوموند”، مضيفةً أنه رغم إشراك تكنوقراط، يبقى رجال أحمد الشرع من إدلب في الوزارات السيادية والإدارة العليا.. ففي المصرف المركزي، كان نفوذ “الشيخ” أبو عبد الرحمن أكبر من نفوذ المحافظ ذاته. وفي وزارة العدل، هناك “مكتب الشيخ” في الطابق الثاني حيث تنتهي الملفات الحساسة.
اختبار الحكم: دماء في الساحل وفشل في الاحتواء
تراجعت سلطته خارج العاصمة، حيث ما تزال فصائل مسلحة مستقلة نسبياً، ويرفض الكرد والدروز الخضوع.
وجاء أول اختبار كبير مع تمرّد ضباط علويين في الساحل، يوم 6 مارس، والذي أُخمد بوحشية، حيث قُتل نحو 1400 شخص معظمهم مدنيون، وفشلت محاولاته لاحقاً في طمس الفاجعة بلجنة تحقيق ومحاكمة شكلية.
حاول استعادة المبادرة في 10 مارس باتفاق إطار مع “قوات سوريا الديمقراطية”، لكن التوتر باق. وفي يوليو، تسبّب هجوم دموي من القوات الحكومية على السويداء ذات الغالبية الدرزية بمئات الضحايا، فزاد الغضب والدعوات للانفصال. وتدخلت إسرائيل لوقف تقدم قوات الشرع، ما شكّل صدمة في دمشق. إلى جانب المناطق الخارجة عن السيطرة، تعاني الأطراف المحرومة.
جاء أول اختبار كبير مع تمرّد ضباط علويين في الساحل، يوم 6 مارس، والذي أُخمد بوحشية، حيث قُتل نحو 1400 شخص معظمهم مدنيون
التحدي الأكبر: الاقتصاد
ترك نظام الأسد بلداً مدمّراً وخزائن فارغة. وتقدّر كلفة إعادة الإعمار بـ216 مليار دولار. أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر. سدّت دول الخليج بعض الفجوات بدفع الرواتب وتمويل شحنات الطاقة. لكن لا خطة اقتصادية بعد. ويرفض الشرع الخضوع لوصفات المؤسسات الدولية، تقول “لوموند”، موضّحةً أنه يراهن على الاستثمارات الخليجية، لكن العقوبات الأمريكية تعرقل تدفّق الأموال.
يقول رضوان زيادة: “إعادة بناء الاقتصاد وحدها لا تكفي. يجب بناء نظام سياسي وقضائي جديد. فمن دون استقرار لن يأتي الاستثمار. وإذا واصل الشرع حكم سوريا كما حكم إدلب، فسيفشل”.
www.deyaralnagab.com
|