أحدث الأخبار
الجمعة 17 أيار/مايو 2024
الانفلاش الإعلامي: تحرر أم طيش؟

بقلم :  د. فيصل القاسم ... 3.6.07

كنت في الماضي آخذ على بعض الدول العربية المنطوية على نفسها كسوريا وغيرها أنها متحفظة إعلامياً أكثر من اللازم، وغير قادرة على الانخراط في عصر السموات المفتوحة واستغلاله لخدمة قضاياها، فهي لا تمتلك كماً كبيراً من المعلقين والمحللين والناطقين الرسميين والسياسيين للحديث باسمها في وسائل الإعلام العربية والعالمية، وخاصة على شاشات الفضائيات التي غدت في السنوات القليلة الماضية مسرحاً مفتوحاً للتعليق على الأحداث والسياسات وتحليلها وشرحها. وكان ذلك النوع من الدول يبدو وكأنه يأبى الظهور الإعلامي، ويمقته، ويشمئز منه وينفر، ولا يستطيع مجاراته، وبالتالي يحاول تجنبه قدر المستطاع، بحيث لا يمكنك الحصول على متحدث سوري للتعليق على بعض القضايا إلا بشق الأنفس، بينما تستطيع أن تؤمن عشرة متحدثين لبنانيين أو فلسطينيين أو مصريين أو عراقيين في النشرة الإخبارية الواحدة بسهولة متناهية. وكنت أعتقد إما أن يكون الانكفاء السوري مظهراً من مظاهر الديكتاتورية والانغلاق المعتادة، أو أنه عائد إلى تخلف وقصور لدى السلطات في ذلك البلد المنغلق على ذاته في التعامل مع الإعلام وتسخيره لخدمة مصالحه واستراتيجياته وقضاياه.
وقد كان البعض يحض المسؤولين في الدول المحافظة والمنكفئة إعلامياً والمقتصدة في الظهور الإعلامي على الانفتاح الفضائي وتدريب الكوادر الإعلامية للظهور على الفضائيات للدفاع عن وجهات نظرها وشرح سياساتها للحاق بالركب الانفتاحي الذي يجتاح المنطقة. لكن هل كانت سوريا السياسية مثلاً متخلفة في تعاطيها مع الفوران الإعلامي؟ أم أن المتحفظين إعلامياً باتوا يبدون الآن بعد كل هذا التهريج الفضائي رمزاً للتعقل والدهاء والرزانة مقارنة مع أولئك المنفلشين إعلامياً؟
صحيح أن في لبنان مثلاً مئات المعلقين والمحللين والإعلاميين والمتحدثين الرسميين وغير الرسميين والسياسيين المستعدين للحديث حتى عن ثقب الأوزون والانشطار النووي "الانفلاقي الانسطاحي الطنطنوشي". وصحيح أيضاً أن الساسة اللبنانيين بارعون في عقد المؤتمرات الصحفية واللقاءات الإعلامية والتعليق على الأحداث. إنهم لا يملون الظهور على الفضائيات إلى حد أن بعضهم صار أشهر من أشهر الفنانين العرب لكثرة ظهورهم على الشاشات. وقد علق أحد الساخرين ذات مرة قائلاً:" لو فتحت حنفية الحمّام لظهر لك وليد جنبلاط أو أحمد فتفت أو سمير جعجع أو علي حمادة. البعض يرى في هذا الإقبال اللبناني الكبير على الظهور الإعلامي دليلاً على الانفتاح والديمقراطية والتعددية التي يتمتع بها لبنان. وهي برأي البعض مؤشر صحي على الشفافية والحرية. لكن هل هي كذلك فعلاً، أم أن هذه "الشوشرة" "الإعلامنجية" أشبه بمرض خطير أكثر منها ديمقراطية وانفتاحاً؟
ماذا حقق هذا الانفلاش "الإعلاماواتي الحنكليشي الشنكليشي" الكبير للبنان، هل ساهم في حل مشاكله المتفاقمة؟ أم زاد في تفاقمها، ولم يحل له معضلة واحدة من معضلاته الخطيرة؟ هل قرّب بين الفرقاء المتصارعين أم زادهم عدداً وتشظياً وعداء؟ هل جعل القضية اللبنانية أكثر عدالة في أعين الجمهور العربي الذي صار يقرف تلك الوجوه اللبنانية المقيتة التي تطل عليه من مئات الفضائيات يومياً؟ هل أصبح لبنان أفضل حالاً بوجود هذا الكم الهائل من جماعة "أبو لعية" الذين يحتلون الشاشات الفضائية ليل نهار؟ أم أن هذه "الزعبرة" الإعلامية اللبناني ليست أكثر من جعجعة بلا طحين؟
وما ينطبق على لبنان ينطبق بدرجة أكبر على فلسطين التي يفوق فيها عدد المحللين السياسيين والمعلقين والخبراء والمتحدثين الرسميين الذين يشغلون الشاشات العربية، يفوق عدد الإعلاميين العرب مجتمعين. فمع أنني أعمل في الإعلام منذ حوالي عقدين من الزمان إلا أنني لا أستطيع حتى الآن الإلمام بأسماء "الفضائيين" الفلسطينيين الذين أصبحوا أكثر من الهم على القلب. فلا تفتح فضائية إلا ويطلع في وجهك متحدث فلسطيني يصول ويجول على كيفه، مع الاعتراف طبعاً بأن المتحدثين الفلسطينيين بارعون جداً في الخطابة التلفزيونية وتطويع العبارات والكلمات. لكن السؤال المطروح، ماذا استفادت القضية الفلسطينية من هذا التكاثر الفئراني للمتحدثين الفضائيين الفلسطينيين؟ هل أصبحت في حال أفضل، أم أنها تنتقل من سيئ إلى أسوأ؟ إنه لأمر عجيب فعلاً أن نشاهد هذا الرهط الهائل من المتحذلقين والمتفذلكين والمتفلسفين الفلسطينيين على شاشات التلفزة العربية والعالمية بينما النتيجة على الأرض تحت الصفر. لماذا تتدهور القضية إذا كان المتحدثون باسمها والشارحون لعدالتها بارعين في الكلام والمواجهة التلفزيونية واجتياح الشاشات "عمـّال على بطـّال"؟ لقد غدا عزمي بشارة، كما يسخر أحدهم، أشهر من الممثل المصري محمود الجندي الذي قد لا يخلو فيلم أو مسرحية مصرية من دور له فيها. لكن ماذا استفادت القضية من هكذا "مفكرين" و"منظرّين" منفلشين أكثر من الانفلاش ذاته؟
هل غدا العراق "عال العال" بعد أن تكاثر الإعلاميون العراقيون كالأرانب في عصر "الحرية والديمقراطية" المزعومة التي حققتها لهم أحذية "اليانكي" الثقيلة؟ لقد راح "الإعلامنجيون" العراقيون الجدد ينافسون أقرانهم الفلسطينيين واللبنانيين في الانتفاخ الإعلامي، فلا تشاهد نشرة إلا ويظهر لك محلل أو محرّم عراقي من كل صنف ونوع. ولا تفتح موقعاً الكترونياً إلا وتجد عشرة "كتاب" أو "كتبة" عراقيين يحتلون الأثير الالكتروني كما يحتل الذباب قطعة حلوى. هل هذه الحرية والانفتاح الذي جنوه على أنقاض النظام "الديكتاتوري" السابق؟ ماذا قدم هؤلاء "المتفيقهيون الإعلاماواتيون" العراقيون الجدد لقضيتهم غير التفاقم والتدهور والتناحر؟ هل القضية العراقية أفضل حالاً من الفلسطينية بوجود هذه "الأرطال" العجيبة من "الخبراء والمحللين والمعلقين" الأشاوس؟ سقى الله أيام "الإمساك" الإعلامي "بتاع زمان"!
هل تطورت مصر بهذا الكم الهائل من "المحللاتية والمنظراتية والكلمنجية الذين يحاصرونك تلفزيونياً من كل حدب وصوب ؟ أم أنها تتدهور على كل الأصعدة؟ هل تقدمت مصر وتراجعت سوريا؟ هل أصبحت السياسة المصرية في وضع أفضل بفضل مئات المعلقين الإعلاميين، أم غدت مضرباً للأمثال في الهبوط والميوعة والخفة و"الهيافة"؟
لم أرد من الكلام أعلاه أبداً السخرية من الانفتاح الإعلامي، بل مرحباً به، ويا أهلاً ويا سهلاً بهذا الانعتاق العظيم من براثن الديكتاتورية وتكميم الأفواه وسد الأبواز! وكي لا يفهمني البعض خطأً، فأنا مع هذه الثورة الإعلامية قلباً وقالباً التي لا يعارضها إلا المعتوهون عقلياً، كما أنني لست بصدد دور الإعلام كسلطة رابعة من واجبها أن تفضح وتكشف وتصلح. لكني أتساءل ماذا استفادت قضايانا في لبنان والعراق وفلسطين من الذين يمطروننا بخطاباتهم وتحليلاتهم وتعليقاتهم التلفزيونية ليل نهار؟ هل الدول التي توّلد المحللين والمعلقين بنفس القدر الذي توّلد به القطط صغارها بالجملة أحسن حالاً من تلك الدول التي تمتنع عن دخول المعمعة الإعلامية الهائجة المائجة وتعمل بهدوء بعيداً عن الأضواء والصخب الإعلامي و"التهييص" الفضائي؟
متى يدرك "الإعلاماواتيون المنفلشون" العرب أن "لا استعراض في السياسة، فالعمل السياسي الحقيقي يشتغل على آليات بعيدة من الإعلام والتصريحات والانكشافات." إن السياسيين الناجحين هم الذين يعملون بمبدأ: إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب، أو واستعينوا على قضاء حاجياتكم بالسر والكتمان، أي دون التصريح أو حتى التلميح أو "الفشخرة"، "ذلك لأن الفعل في العمل السياسي ليس للإعلام، إذ إن السياسات لا تمارس فعلها إلا في الأروقة السياسية والدبلوماسية"، وليس على شاشات الفضائيات. بعبارة أخرى، فإن "الصمت في السياسة يمنح اللاعب السياسي فرصة إخفاء أوراقه وعدم الالتزام بما لم يصرح به وتخفيض درجة الخفة السياسية".
ومن هنا فلقد تبين لي وبعد تلك التجربة بكل تفاصيلها العبثية مدى بعد النظر - والحكمة - الذي تتمتع به تلك الدول التي كنا نأخذ عليها "بخلها" وشحها بأشباه المنظرّين "الإعلاماواتيين". فالبخل في هذا المجال تحديداً فضيلة، على اعتبار أن "كل شيء زاد بالمعنى نقص! فلا تنفلشوا إعلامياً ذلكم خير لكم!