أحدث الأخبار
الجمعة 17 أيار/مايو 2024
دماء الشمس!

بقلم : مسلم محاميد ... 17.6.07

كلّما استفاقتْ شمسُك الداكنةُ أيّها الوطنُ لتعلنَ ولادةَََ صبح دمويّ جديد، تسألني كتبي وسجائري وفنجانُ قهوتي الصباحية: لماذا ولِدَتِ الشمسُ داكنةً من رحم السماء الزاهي؟ لماذا ينبلج هذا الجنين داكناً وأمّه السماء ليست بداكنة؟ وكيف لهذه الشمس التي ما كانت إلا لتنيرَ الكونَ فتتحفنا بوضاءتها وتبثّ فينا البهجة، أن تتقمّص وجه الغسق؟ أحاميّةٌ هي سَقَطَتْ في براثن الخطيئة في جاريةٍ ذاتِ ألواحٍ ودُسُر حتّى تثيرَ غضبةَ نوح فتقع عليها لعنةُ السماء، أم أنها استسلمت لكذب الطبيعة وزيفها، فما عاد لها من الطاقة ما ينيرُ محياها؟
أجيبي أيتها الألسن المنخرسة التي ما عادت لتنبسَ إلا بما يسطره لها المارقون! أجيبي أيتها الأوثان البشرية التي ما كانت لتُعبد في ارضٍ هي سيّدتها، بل لطالما عَبَدَتْ صانعيها في زمان أصبح فيه السيد عبدَ العبدِ وعبدَ عبدِ العبدِ. أجيبي أيتها القلاع المهجورة التي استوطنتها الغربان وتخذت منها معابد للبؤس والشقاء، أجيبي أيتها الرياض البلهاء التي طلقت ثلاثا أزاهرها وعَرفها وفراشاتِها وألوانها الربيعية .... لا مجيب في هذه الصحراء.
أحاولا عبثا أن أقنع نفسي أنّ المشاهد السينمائية المكذوبة التي أراها هي مشاهد غير حقيقية، ولكن زجاجَ أحلامي سهلُ الكسر على صخرة الواقع العربيّ المرّ.
أحاول أن اعتبرَ نفسي طفلاً ساذجا يصدّق كلّ ما يقال له إقناعا فأروي لها أن مشاهدَ الرعب هذه ليست سوى مقاطعَ من فيلم من أفلام هيتشكوك الهوليوودية أو أن ذلك مجردُ حلم عابر، أو سحابة صيف تمر فوق الهامات المنسحقة تحت وطأة الكذب والزيف وظلم ذوي القربى، مجرّد حلم يمرّ مروراً سريعاً لا عودة بعده.
ولكن الحقيقة تقتحمُ مخدعي كجنديّ مغوليّ اتّحد نعلاه بوحل الجبال الباردة وجليد المعارك الحاقدة ودماء الشعوب، لتركلَني ركلةً تشجّ راسي وتدمي كياني وتقول لي انهض إنها الحقيقة التي لا مفرّ منها.
أحاول أن اشق بطونَ الكتب والموسوعات الفلكية والتاريخية والحضارية فاعتصرُ مكتبتي اعتصاراً، باحثاً عن معلومة ولو بسيطة تفيدني أن الشمس قد تُولد داكنةً وأنّ أنوارَها قد تخبو، أو أن لهذا الحدث جذورٌ ولو ضعيفة أو بعيدةٌ في التاريخ. فما اسمع سوى قهقهات تنبعثُ من صفحات هذه الكتب مجلجلةً مدوّيةً. إنها قهقهاتُ العباقرة والعلماء والمفكرين على مرّ العصور، تستخفّ بغبائي وتعلن سفهي وسطحيّتي وتوبّخني وتلومني على جهلي وقلة حيلتي في المعرفة والعلوم.
وسرعان ما تتحول هذه القهقهات إلى جلبة وزمجرة وبكاء، وأسمع من بين العبارات التي استطعت انتزاعها بصعوبة، قولاً لهارون الرشيد، لعله كان مونولوجا، إذ لم أسمع عليه من رد أو إجابة:
أيها الأغبياء تركت لكم أرضاً ترابُها ذهب وزرعُها رطب فيها راحة وليس فيها تعب، فلماذا تضيّعون الكنوز أيها الأغبياء وتبيعون بثمن بخس تراثَ الأنبياء؟!
فأبكي ولا أجيب
وينبعث صوت جديد، صوتُ ابن الخطاب يقول: أيها المجرمون، يا من استبدلتم العدل بالظلم وشروتم بثمن بخسٍ الرحمةَ والحلم، وطلّقتم التاريخ والأصالةَ والعلم، ألم يصلْكم إرثٌ قد خلّفناه وناموسٌ قد ورثناه فورّثناه، ناموسٌ يرفع الرؤوس من الحضيض ويجعل الشمس عند الجباه؟!
فأبكي ولا أجيب
وينبعث صوت أبي لهب: يا أيها الذين ما نالهم من حياتهم سوى التعب، ومن صيامهم سوى العطش ومن قيامهم سوى النصب، ألم تدروا أنني في قعر جهنم أصلى ناراً ذاتَ اللهب، ألم يُقل فيّ تبّت يدا أبي لهب وتب، ألم تحرقْني نارُ الحطب، لماذا أيها المجرمون تسيرون على دربي وتنسون أصلكم، لماذا يا عرب؟!!
فأبكي وأبكي، وتبتلّ صومعتي من العبرات، وأجمع قواي لأسألهم: لماذا تولد الشمس داكنةً ولا يجب أن تولد إلا وضّاءة، فلا يجيبني أحد وتختفي جميع الأصوات!
أفتح نافذتي البائسةَ لأطلّ منها على العالم الذي أمسى يؤرقني ويقض أصلَ مضجعي، فإذا بنخلةٍ عراقية الجذور، مصريّة الفروع، شامية الرّطب، يمنية السعف، فلسطينية الصمود، تنتصب أمامي طوداً أزليّاً، وقد بانت في عينيها لوعة طويلة طويلة، نظرت إليّ وقالت: إذا أردتَ أن تعرفَ سرّ لون الشمس الداكن، فانظر إلى الأرض الملطخة بالدماء التي اختلطت فيها دماء المجرمين بدماء الشهداء، فانعكسَ لون الدماء على الشمس غضباً واعتلت وجنتيها حمرةُ الدماء القانية!

أم الفحم - فلسطين