أحدث الأخبار
الجمعة 17 أيار/مايو 2024
القوات الدولية في قطاع غزة والبوصلة الفلسطينية !

بقلم : د.خالد الحروب ... 4.7.07

مطلب إستدعاء قوات دولية إلى قطاع غزة يعوزه المنطق السياسي ولا يخدم الأهداف الفلسطينية. مثل هذه القوات تكون مطلوبة في أوضاع احتلالية وهي أجدر بأن تكون موجودة في الضفة الغربية لتحمي الفلسطينين من الإحتلال الإسرائيلي وليس في قطاع غزة، وهذا يجب أن يُقال بعيداً عن السجال المدمر بين فتح وحماس. في القانون الدولي يكون هدف أي قوات دولية هو فصل الأطراف العسكرية المتحاربة، أو لحماية المدنيين، وغالباً بموافقة الأطراف المتحاربة. كلا الأمرين غير موجود في قطاع غزة في الوقت الراهن: لا الحاجة إلى فصل بين جيشين متحاربين، ولا الحاجة إلى حماية مدنيين من قوة إحتلالية. أما تبرير دعوة أي قوات دولية إلى قطاع غزة بمسوغ الإشراف على إجراء انتخابات فلسطينية مبكرة فإن هذا لا يدعمه منطق قانوني، ناهيك عن الشروط السياسية المفترض الوصول إليها والمهيئة لمثل هكذا خطوة. فحماس حتى الآن ترفض إجراء مثل هذه الانتخابات، فهل من مهمة القوات الدولية فرض إجراء الانتخابات عبر استخدام القوة العسكرية مثلاً؟ أما أن يُناط بهذه القوات مهمة مراقبة الإنتخابات فهذا أمر يخضع لسؤال آخر. مهمة التأكد من حسن سير أي عملية إنتخابية ونزاهتها وحريتها منوطة بمنظمات دولية محايدة وجمعيات دعم المجتمع المدني، وليس القوات الدولية. وعلى كل حال يبدو الحديث عن هذه التفاصيل ترفاً وهروباً إلى الأمام يجب أن لا تتيحه بشاعة الظروف الفلسطينية الراهنة والحاجة الماسة إلى حل سياسي بين فتح وحماس قبل التفكير بأي خطوة أو إجراء آخر.
وجود القوات الدولية في قطاع غزة، لو تخيلنا وجودها، سوف يشجع على تكريس الإنقسام الفلسطيني بين فتح وحماس فيتمترس كل طرف منهما على جانب من جانبي الفصل الذي تشرف عليه تلك القوات. وجود هذه القوات كان مطلباً فلسطينياً دائماً عندما كان الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وليس الآن. آنذاك كان هذا الطلب يصب في اتجاه البوصلة الوطنية الفلسطنية، وليس في إتجاه يشتتها كما الآن. إن كان هناك جهد دولي مطلوب في هذا الشأن فيجب أن يتمثل في المطالبة بجلب قوات دولية إلى الضفة الغربية كجزء أو مرحلة أولية من مراحل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي هناك وحماية المدنيين الفلسطينين. الوضع الإحتلالي من قبل إسرائيل للضفة الغربية أكثر وضوحاً بما لا يُقاس عند مقارنته بالوضع الإستثنائي والمرفوض في قطاع غزة. هذا من دون التوهم بأن القطاع ينعم بإستقلال وتحرر وإنفكاك عن السيطرة الإسرائيلية التي ما زال بيدها مصير الفلسطينين هناك براً وبحراً وجواً.
إسرائيل هي أكثر من يدرك مغزى إستقدام قوات دولية على أراض فلسطينية لا تزال تحتلها، لذلك كانت على الدوام ترفض هذا الطلب جذرياً. هذا ما رفضته عندما كانت تحتل قطاع غزة، وما ترفضه الآن بشدة إزاء أية فكرة متعلقة بالضفة الغربية، وما ستظل ترفضه في المستقبل. لكن بالتأكيد سوف نسمع تأييداً إسرائيلياً لمطلب إستقدام قوات دولية إلى قطاع غزة، ليس لأنه يحدث بعيداً عنها وحسب، بل لأنه يفاقم من الإنقسام الفلسطيني الذي جاءها كهبة من حيث لم تحتسب. لكن ماذا لو يتم تعديل المطالبة بقوات دولية، وعلى سبيل الإختبار مثلاً وفقط، وبحيث أن يُطلب من المجتمع الدولي أن يُرسل قوات دولية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة معاً حتى نسمع الرد والموقف الإسرائيلي بشكل أكثر وضوحاً وبشكل يتيح المقارنة أكثر؟
لا يعني رفض فكرة القوات الدولية في قطاع غزة التقليل من الخطر الذي يحيق بالمستقبل الفلسطيني جراء الإنقسام الوطني، الجغرافي، الحمساوي، الفتحاوي الذي لحق بحاضر الفلسطينين. كما أنه لا يعني تأييد الوضع الراهن الذي تسيطر من خلاله حماس على القطاع وتتحكم فيه جملة وتفصيلا بعيداً عن أي إجماع أو إتفاق وطني فلسطيني. إذ أن كل يوم يمر وهذا الانقسام موجود معناه مفاقمة الصعوبات وإهالة المزيد من الغموض على ما قد يحدث أو ما يمكن القيام به من قبل كل الأطراف. هذا الإنقسام يضرب في قلب القضية الفلسطينية ويسبب فقدان البوصلة الوطنية. إنه يضع سؤال المشروع الوطني نفسه وأهدافه موضع شك، ويثير إحباطاً عز نظيره في أوساط الشعب الفلسطيني والشعوب المناصرة له. خطر الإنقسام الحالي إذن هو في إنحراف البوصلة الوطنية من التركيز على الإنتهاء من الإحتلال الإسرائيلي إلى التركيز على أهداف وأجندات حزبية وجزئية أو في أحسن الأحوال تخفيض سقف وهدف هذه البوصلة ليصبح "توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الإحتلال الإسرائيلي". ويمثل هذا تقهقراً غير مسبوق على صعيد النضال الفلسطيني ضد الإحتلال الإسرائيلي.
أية فكرة تُطرح الآن لمحاولة "معالجة" الإنقسام الضفاوي الغزاوي، الفتحاوي الحمساوي، لا يكون الحوار بين الطرفين هو محركها الأساسي هي فكرة لا علاقة لها بالواقع وخيالية. سواء أكانت فكرة القوات الدولية، أو حصار القطاع، أو محاولة استعادة السيطرة عليه عسكرياً، أو تأليب وحشد الأطراف الإقليمية والدولية ضد حماس أو غيرها من الأفكار تجلب خراباً ودماراً إضافياً. "الواقعية السياسية" تفرض منطقاً واحداً هذه الأيام وهو أنه من دون الحوار الفتحاوي - الحمساوي سيتكرس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية. مهما كان الحوار المنتظر مراً ومريراً وصعب التحقيق وظروفه غير مهيئة والأحقاد المتبادلة تقف في طريقه، وبعض الأجندات الإقليمية والدولية والإسرائيلية تعارضه، ومهما كان من أمور أخرى تعيقه فإنه البوابة الوحيدة التي يجب على الفلسطينين أن يدخلوها رغماً عنهم. رفض هذه الفكرة ليس هروباً من أبجديات الواقع السياسي الراهن وحسب، بل فيه تكريس للإنقسام.
الضرر الذي تجلبه الأفكار الأخرى "غير الحوارية" يكمن في إضاعة وقت ثمين في الرد والأخذ والدوران على الفكرة الوحيدة التي يراها أي متعقل للوضع وهي الحوار. هذا كله من دون أن نقول أن منطق سد أبواب الحوار الوطني وإغلاقها وإظهار البطولة المتزايدة في صك أقفالها يبدو عارياً ومتناقضاً مع نفسه عندما تكون تلك الأبواب مشرعة على مصاريعها مع "العدو الإسرائيلي" رغم بطشه الذي لم يتوقف يوماً واحداً، ورغم إستمرار إحتلاله، وإستمرار إعتقاله لألوف الفلسطينين. وبصراحة لم تعد تخفى على أحد يجوز القول أنه لو أمتلك رموز حل أوسلو عُشر الشجاعة وعُشر الخطاب "الصلب" الذي يتبنونه الآن ضد الحوار مع حماس عندما تعاملوا ولا زالوا يتعاملون مع الصلف الإسرائيلي لكان وضع القضية الفلسطينية وحقوقها أفضل ألف مرة. هذا كله، ومرة أخرى، لا يعني المصادقة لا على مواقف حماس ولا على سيطرتها على القطاع، لكن أي منطق منصف ووطني يقود إلى القناعة بأن الحوار بين الطرفين هو السبيل الوحيد والوحيد فقط لمحاولة الخروج من المأزق.