أحدث الأخبار
الجمعة 17 أيار/مايو 2024
شماعة الديموقراطية المفضوحة !

بقلم : د. فيصل القاسم ... 16.7.07

كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيتها الديموقراطية! كم من المخططات الدنيئة والمؤامرات المفضوحة تمر على جثتك أيتها المسكينة! فباسمك اصبحوا ينهشون العالم ويسبونه. باسمك يقيمون إمبراطوريتهم ويطوقون العالم كما تطوق الأفعى فريستها . باسمك يتدخلون في معتقدات الأمم ودياناتها . باسمك يخربون الأوطان ويحرقون الأخضر واليابس ويكررون فظائع المغول والتتار ويدنسون المقدسات والمحرمات والكرامات ويلغون الهويات ويزيلون التاريخ ويمحون ذاكرة الشعوب ويمزقون البلدان إربا إربا ويجيشون الجيوش ويطلقون العنان للوحوش . كل ذلك وأكثر يجري تحت لافتاتك وشعاراتك البراقة أيتها الديموقراطية اللعينة. كم أصبحتِ كلمة بذيئة ومفردة رديئة ومثاراً للسخرية والتهكم وعنوانا للخطيئة ! ولو كنت مكانك أيتها الديموقراطية السليبة لرفعت الدعوى تلو الأخرى ضد من أهانوك وهتكوا عرضك وعرض الذين خلفوك. لقد ابتكرك المفكرون والمنظرون لتكوني مخلصّة للبشر من نير البشر، لكنك غدوت في زمن رعاة البقر مطية سوداء لتحقيق الغايات والمقاصد الدنيئة. آه لو كان أرسطو حيا وشاهد كيف أن إحدى بنات أفكاره قد غدت حصاناً من أحصنة طروداة التي كان يستخدمها أهلوه الإغريق لتنفيذ عمليات ظاهرها حصان رشيق وباطنها دمار محيق ! آه وألف آه!
لا أريد أن يفهم أحد أنني من أعداء الديموقراطية، فهي أفضل ما تفتق عنه فكر البشر حتى الآن لحكم الإنسانية ، وهي التي أوصلت الغرب إلى ما وصل إليه من نهضة وتقدم وسؤدد وازدهار، وغيابها هو الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من تخلف وانحطاط وذل ومهانة. لكن عندما تصبح الديموقراطية حقاً يُراد به باطل أو سلاحاً يُستخدم لأغراض رخيصة فهذه إهانة لا بل سبة في جبين كل من قال إنه ديموقراطي. كم تصبح الديموقراطية مبتذلة عندما ترفعها أمريكا والغرب عموماً في وجه كل من لا يأتمر بأوامره وإملائاته! كم من المضحك عندما نرى البيت الأبيض يُشهر عصا الديموقراطية في وجه وكلائه من الدول العربية والعالمثالثية عندما تحاول أن تلعب بذيلها قليلاً، وتمتنع عن تأدية المهمات القذرة الموكلة إليها! لماذا أصبحت الديموقراطية وسيلة للعقاب في يد الإمبريالية الأمريكية تستخدمها كبعبع مخيف للصدمة والترويع ؟ ألا نفهم من ذلك أن واشنطن غير جادة أبدا في نشر الديموقراطية كما تدعي، إنما تستخدمها فقط لإرهاب الأنظمة الشمولية التي تفكر بالخروج عن طاعة البيت الأبيض. وطالما أن الطغاة والمستبدين يؤدون واجباتهم المطلوبة أمريكياً على أكمل وجه ، فهم آمنون من داء الديموقراطية المميت الذي تهدد به الإدارة الأمريكية.
كم ضحكت علينا أمريكا ومازالت تضحك، وكم صدقنا أكاذيبها، وخاصة تلك المتعلقة بتحقيق الديموقراطية! مع العلم أن آخر شيء تتمناه لنا واشنطن انتشار الديموقراطية في بلادنا. ولا داعي للتذكير أن أشنع الأنظمة الديكتاتورية وأسوأها في العالم هي من صنع أمريكي مائة في المائة. فكلنا يعرف أنه من المستحيل أن تسلم أمريكا مقاليد الحكم للشعوب وهي التي تكره الأرض التي يمشي عليها الكاوبوي الأمريكي. وهذا الأمر ليس مجرد رفض عابر للهيمنة الأمريكية ، بل هو نتيجة توصل إليها تقرير وصُف بأنه "سري " رفعته وزارة الخارجية الأمريكية إلى الإدارة قبيل الحرب على العراق ، اعتبر أن إنشاء ديموقراطية حقيقية في الشرق الأوسط يمكن أن يهدد المصالح الأمريكية من خلال انتخاب الشارع ، الذي يكره أمريكا وإسرائيل ، لحكومات تمثل صوت الشعوب. إذن من الحماقة الشديدة التعامل مع الحملة الأمريكية الجديدة على أنها حملة "ديموقراطية " تهدف إلى إسقاط أنظمة ديكتاتورية وإنشاء حكومات ديموقراطية شعبية ، فهذا الأمر يعني تهديدا مباشرا وخطيرا للمصالح الأمريكية وينقل المواجهة من المواجهة مع حكومات كرتونية تعتاش على المساعدات الأمريكية الاقتصادية والسياسية إلى المواجهة مع الشارع نفسه الذي لا يرى فرقا البتة بين الأمريكان والشيطان. فلو كانت أمريكا جادة فعلا وصادقة في جلب الديموقراطية للعرب المساكين والشعوب المقموعة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لكانت قد احترمت خيار الشعب الفنزويلي الذي صوت بأغلبيته للرئيس هوغو شافيز، لكن عندما بدأ شافيز يقلب ظهر المجن لجيرانه في البيت الأبيض انقلبوا عليه وعلى ديموقراطيته وعلى شعبه فراحوا ينصبون له المكيدة تلو الأخرى ، لا بل نظموا له انقلابا أطاح به لأيام معدودة على أيدي بعض المرتزقة الفنزوليين ، لكن الشعب الفنزويلي العظيم أحبط مخططات وكالة الاستخبارات الأمريكية ذات التاريخ الأسود في ترتيب الانقلابات وتصفية المعارضين للنظام الأمريكي ، فأعاد شافيز إلى الحكم رغما عن أنف الأمريكان . فكما هو واضح للعيان فإن أمريكا لا يهمها إذا كان هناك نظام ديموقراطي منتخب في فنزويلا أم لا ، المهم مصالحها أولا وأخيرا ، حتى وإن تعارضت مع مشيئة الله فضلا عن مشيئة الديموقراطية.
لاحظوا أيضا كيف ضربت أمريكا عُرض الحائط بخيار الشعب التركي ممثلا بالبرلمان، فقد شاهدنا كيف صوت البرلمان التركي، الممثل الشرعي للديموقراطية الشعبية ، ضد منح تسهيلات عسكرية للقوات الأمريكية الغازية للعراق وسجل بذلك سابقة مشرفة للسياسة التركية. لكن هل احترمت أمريكا الديموقراطية التركية ، أم أنها راحت تضغط من وراء الكواليس بطريقة ديكتاتورية مقيتة على الأتراك كي يسمحوا بدخول قواتها إلى العراق عبر أراضيهم؟ لقد وقعت معارك دبلوماسية طاحنة بين أمريكا والنظام التركي حتى استجاب الأخير لبعض مطالبها ضاربا هو الآخر عرض الحائط بالإرادة الشعبية التي قالت لا للسماح للجيش الأمريكي بدخول أرضنا . وقد أفادت تقارير أمريكية في الأونة الأخيرة أن واشنطن ضغطت على المؤسسة العسكرية التركية كي تزيل حكومة أردوغان المنتخبة ديموقراطياً.
وإذا كانت أمريكا قد اكتفت بالتهديد والوعيد لتركيا الديموقراطية وسياسة لي الأذرع ، فإنها كانت في الماضي تطيح بأي رأس ديموقراطي لا يلبي احتياجاتها. ألم تطح بالرئيس التشيلي الشهير الليندي الذي كان منتخبا ديموقراطيا من الشعب التشيلي؟ ألم تنصّب مكانه الطاغية الدموي القبيح بينوشيه الذي جاء إلى الحكم رغما عن أنف الشعب بمباركة أمريكية؟ وكلنا يتذكر ما حصل للرئيس الإيراني الدكتور مصّدق الذي لم تشفع له وضعيته الديموقراطية ، فأطار الأمريكيون رأسه بين ليلة وضحاها لينصّبوا مكانه الشاه المقيت الذي كان الخادم الأفضل للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط. وكي لا تكون كل الأمثلة من العالم الثالث، فقد شاهدنا بأم أعيننا كيف تعاملت أمريكا مع بلد ديموقراطي عظيم مثل فرنسا قبيل الغزو الأمريكي للعراق، فكون فرنسا أحد أنصع الأمثلة الديموقراطية في العالم لم يشفع لها في أعين الكاوبوي ، فقد ضايقوها وهددوها لمجرد أنها لوحت باستخدام حق النقض الفيتو ضد أي قرار يبيح لواشنطن ضرب العراق. فماذا كانت النتيجة؟ لقد قال الرئيس بوش لشيراك بالحرف الواحد " إننا لن ننسى ولن نسامح ". أي أنه كان مطلوبا من الحكومة الفرنسية أن تخضع للإملاءات الأمريكية حتى وإن كانت تتعارض مع رغبة الشعب الفرنسي الذي كان بأغلبيته الساحقة ضد الحرب ، وإلا فإن عذابا أمريكيا أليما ينتظرها. فإذا كانت أمريكا تتعامل مع إحدى أقوى الديموقراطيات الغربية بهذا الشكل، فماذا نقول عن تعاملها معنا نحن العرب سادة الطغيان والديكتاتورية؟ باختصار فإن أهم شروط أي ديموقراطية في العصر الأمريكي أن تكون موالية للبيت الأبيض، وإلا فهي ديموقراطية منقوصة ومرفوضة أمريكيا. وهذا الكلام طبعا يقودنا إلى القول إن الديموقراطية المزعومة أو الموعودة ليست مسعى أمريكيا حقيقيا ولا ضمانا وطنيا للدول العربية ضد الإمبريالية بما في ذلك الغزو العسكري والتدخل المباشر.
لا شك أن الأمريكيين استغلوا ديكتاتورية صدام حسين أحسن استغلال لتمرير مخططاتهم الاستعمارية في العراق ونجحوا ، لكن طغيان النظام العراقي ، كما نعرف جميعا ، ليس السبب الذي حدا بالجيش الأمريكي لغزو البلاد تحت لافتة عملية "تحرير العراق" . وقد انكشفت هذه اللعبة بعد يوم واحد من سقوط النظام حيث راح وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد يقول بملء فمه إن العراقيين ليسوا جاهزين للديموقراطية إلا بعد أجيال عدة ، مما يذكرنا بنفس الحجج التي روجتها الأنظمة العربية على مدى نصف القرن الماضي من أن الشعب العربي لم ينضج بعد لتقبل الديموقراطية. وكلنا كان قد سمع تصريحات الرئيس بوش وأعوانه قبل الحرب وهو يعد بجعل العراق منارة للديموقراطية ترنو إليها أعين كل العرب من كل حدب وصوب. لكن هذا الوعد تبخر بسرعة سقوط بغداد.
هل يُعقل أن تأتي أمريكا بالدب إلى كرمها كما يقول المثل الشعبي؟ بالطبع لا ، فمن الأسهل والأجدى ألف مرة أن تتعامل مع حكام طغاة يحققون لها كل ما تريد بمكالمة هاتفية. فلو تحققت الديموقراطية في بلادنا العربية فهذا يعني أن أي مطلب أمريكي لا بد وأن يمر عبر البرلمانات المنتخبة التي يمكن أن ترفض تلك المطالب رفضا قاطعا. هل ستستطيع أمريكا مثلا تمرير صفقات السلاح الهائلة والمهولة التي تفرضها على بعض الأنظمة العربية لو كان هناك ديموقراطية حقيقية وبرلمانات؟ طبعا لا، فمن شأن ممثلي الشعوب الحقيقيين أن يتصدوا لعمليات النهب والسلب التي تمارسها أمريكا بتنسيق مع أزلامها وأعوانها في الوطن العربي. أما الآن وفي ظل غياب أي ديموقراطية عربية، يستطيع الرئيس الأمريكي أن يرفع سماعة الهاتف ويتلو كل طلباته ومتطلباته على العديد من الحكام العرب ، وما عليهم سوى الاستجابة بلمح البصر، وإلا .
ألا يمكن أن تكون هذه "الهيصة" الصاخبة والجلبة الهائلة حول فضائل الديموقراطية وضرورتها الملحة بالنسبة للوطن العربي هذه الأيام ، ألا يمكن أن تكون لذر الرماد في العيون لا اكثر ولا اقل؟ لماذا أصبحت كل وسائل الإعلام وكل المثقفين العرب وكل من مسك قلما ، لماذا راحوا جميعا يكتبون عن الديموقراطية ؟ هل لأغراض نزيهة؟ لاحظوا كيف تستخدم الديموقراطية هنا مرة أخرى للتضليل والتعتيم، بينما يرتكب الغزاة من وراء هذا الستار الدخاني المفضوح كل ما لذ وطاب لهم من موبقات وسلب ونهب في أرض الرافدين.
هل تنفع الديموقراطية بعد كل ذلك في عصر التوحش والتلاعب الأمريكي إذن؟ الجواب نعم وألف نعم تنفع. لهذا أرجو أن لا يفهم طغاتنا وسفاحونا من الزعماء العرب مما سبق أننا لسنا بحاجة إلى الديموقراطية طالما أن أمريكا تستخدمها شماعة أو فزاعة لتحقيق مآربها الخاصة أو مستعدة لأن تضرب بها عُرض الحائط عندما تتعارض مع مصالحها. فالديموقراطية تبقى الضمان الأمثل لكل المجتمعات، فهي التي تحميها وتحصنها من الانهيار الداخلي والعدوان الخارجي . فالطغيان والديكتاتورية عمرهما قصير حتى لو طال بهما الزمن ، ولا يمكن لهما حماية الوحدة الوطنية لأي بلد. فالاستبداد الشيوعي دام أكثر من سبعين عاما لكنه سرعان ما سقط كأحجار الدومينو، نظاما تلو الآخر، لا بل قومية تلو الأخرى. ولعلنا نتعظ أيضا بتجربة فنزويلا، فالمؤامرات والتدخلات الأمريكية فشلت فشلا ذريعا في النيل من البلاد، فلو لم يكن الرئيس شافيز منتخبا ديموقراطيا لذهب في " ستين ألف داهية " ، لكن إرادة شعبه الحرة أعادته إلى السلطة شاء من شاء وأبا من أبا. فهل يتعظ الطغاة والمستبدون العرب ويعطون الديموقراطية الحقيقية فرصة إنقاذا لمجتمعاتنا العربية ، أم أنهم سيظلون في غيهم يعمهون؟ وإذا كانت أنظمتنا المتهاوية تريد فعلا بناء ديموقراطية أصيلة فعليها أن لا تتوقعها من الكاوبوي الأمريكي، فهو ألد أعداء الديموقراطية للشعوب الأخرى، علينا أن نبني ديموقراطية وطنية أصلية بطاقاتنا، فالديموقراطية المفروضة من الخارج هي كالثوب المستعار، قد يدفأ مؤقتا، لكنه لا يدوم.