أحدث الأخبار
الجمعة 17 أيار/مايو 2024
عن الرجال والبنادق !

بقلم : رشاد أبوشاور ... 4.7.07

عنه هو أكتب، لا لأذكّر، والذكري تنفع المؤمنين، فمن العار أن يحتاج للتذكير به، فهو لا ينسي رغم قتامة أيامنا الراهنة.
أكتب لمن كتب لهم، وعنهم ليقرأوه من جديد...
أكتب لها، هي نجمتنا، ودليلنا، التي نسري إليها مبللين بندي الفجر، كأنما نحن في سباق تتابع، نتسلّم من أيدي من سبقونا (الأمانة) ونركض بها غير متريثين، أو متلكئين، أو متوانين، أو متقاعسين، أو يائسين، من طول المشوار، وصعوبة المعوّقات.
هو الذي كتب (عن الرجال والبنادق)، وكتب عن ابن الخالة (أم سعد) التي انبتت عرق الكرمة في إناء متواضع، ليخضّر، وتعاملت مع القصفة تلك كما مع ابنها (سعد) الفدائي البسيط، النبيل، الشجاع، وريث قيم الرجال الذين صعدوا الجبال وتآخوا مع قممها، فاشرأبّت نفوسهم، وحلّقت عاليا رؤوسهم الواضحة القسمات.
في غمرة حزني، وأنا أختلس دقائق من يوم جهنمي الحرارة، خرجت من (الفندق) إلي بوّابة الصالحيّة بدمشق. تناولت صحيفةً محليّة، وصحيفة (الحياة)، فإذا من بين طيّاتها ينسلّ كتاب ظننته دخلها بالغلط، وإذا البائع الطيّب يهمس لي:
ـ الكتاب هديّة..أستاذ !
وتكون المفاجأة أن الكتاب طبعة شعبيّة من (عن الرجال والبنادق)، وهو يأتي في وقته، في مطلع شهر تموّز، حيث نستعيد في الذاكرة واحدة من أشنع جرائم عدونا: اغتيال المعلّم غسّان كنفاني يوم 8 تموّز 1972.
كأنني لم أقرأ الكتاب من قبل، أدهش للمقدمة الأخّاذة، الأنيقة، البارعة، العميقة، التي كأن غسّانًا كتبها الآن، وليس في العام 68: نمت متأخرا جدا، . كان كاتب صيني اسمه (سان تسي)، عاش قبل الميلاد بعدّة مئات من السنين، قد اجتذبني تماما، وفكّك تعبي، واصطاد انتباهي (علي ان ذلك كلّه خارج الموضوع الذي سأكتب عنه )، وكتب يقول: إن الحرب حيلة، إن الانتصار هو أن تتوقّع كلّ شيء من عدوّك، وألاّ تجعل عدوّك يتوقّع. كتب يقول:إن الحرب مفاجأة، كتب يقول إن الحرب سطوة المعنويات، كتب يقول...ولكنّ ذلك خارج الموضوع.
يوقظه من نومه ـ غسّان كنفاني نفسه ـ صوت، يخبره بحملة تبرعات لجمع ألعاب لأطفال الفلسطينيين في المخيمات في الأردن: قال لي: لدي فكرة، سنجمع ألعابا للأطفال ونرسلها إلي النازحين في الأردن، إلي المخيمات، أنت تعلم، هذه أيّام أعياد...
كنت نصف نائم: المخيمات، تلك اللطخات علي جبين صباحنا المتعب، الخرق البالية التي ترفّ مثل رايات الهزيمة، المرميّة بالمصادفة فوق سهوب الوحل والغبار والشفقة...
هنا توقفت، وكان بودي لو أنقل المقدّمة كاملة ليطّلع القرّاء الذين لم يقرأوا روايات، وقصص، ومقالات، وسجالات..غسّان، لم يتأملوا عمق الأفكار، وبلاغتها، وتجددها.
منذ أشهر وأنا أهيئ لاحتفالية بـ(يوم الكلمة والشهادة )، في شهر تمّوز، وفي مخيّم اليرموك.
علي أن يكون اليوم جسرا بين يومي استشهاد غسّان كنفاني وعبد الرحيم محمود، وأن نرفع صور معلمينا، ومبدعينا، في مسيرة يشارك فيها كتّاب يسيرون تحت صور وكلمات من سبقوهم، رافعين شعارات تليق بهؤلاء، ترفرف فوق رؤوسهم راية فلسطين ـ وهل من راية غيرها يليق أن تعلو في يوم الكلمة والشهادة؟ـ وعلي الجدران ملصق يضمّ صور كل المبدعين الشهداء: عبد الرحيم محمود، نوح إبراهيم، ناجي العلي، حنّا مقبل، علي فودة، وائل زعيتر، عز الدين القلق و...والمعلمّة التي توقّف قلبها سميرة عزّام، وهي في السيّارة قادمة من بيروت إلي الأردن، لتطّلع علي المأساة الجديدة: مأساة ونكبة حزيران، والتي عاد السائق والمسافرون الذين أرادوا أخذ قسط من الراحة في المدينة الأردنيّة (جرش)، بعد رحلة طويلة من بيروت عبر دمشق، فوجدوها تحملق في أهلها المشردين المرميين تحت الأشجار في العراء، بعد أن طلبوا النجاة بأسرهم إثر الهزيمة التي صعقتهم..وقد توقف قلبها حزنا وألما!
لم يتفطّن المتحاربون هذا العام ـ وهل تفطّنوا من قبل ـ للوقوف عند ذكري: غسّان، وعبد الرحيم، وناجي العلي، وسميرة عزّام، وقراءة رواياتهم، وقصائدهم، وقصصهم، قلا وقت لديهم خارج السرقات والفساد والاقتتال والزعبرة علي الفضائيات.
دار (المدي) تذكّرت فأعادت نشر (عن الرجال والبنادق) ـ مع رفضي لنهج صاحب الدار ودوره ـ وعدّة صحف عربيّة بالاتفاق مع تلك الدار وزّعت الكتاب هديةً.. فشكرا.
موقع الكاريكاتور السوري، أعلن عن مسابقة دولية لرسم الكاريكاتور عن موضوعين: ناجي العلي و..فلسطين، وهما الأم والابن، كما غسّان وفلسطين، كما عبد الرحيم وفلسطين، وحدد الموقع يوم 25 تمّوز الجاري كآخر موعد لتسلّم المشاركات.
أطلق القتلة علي ناجي الرصاص في تمّوز و..صارع الموت بعناد طيلة شهر، حتي فاضت روحه.
غسّان وناجي لم يكونا لفلسطين وحدها، فهما عربيّان بامتياز، جسّدا عروبة فلسطين في كل كلمة، ولوحة، ومبكّرا شخّصا أقلمة القضيّة، وحذّرا منها.
في لوحات ناجي الفدائي إنسان واع بالفطرة، والكوفية توضّح انتماءه، ولا تخفي وجهه. الفدائي في أدب ولوحات غسّان وناجي واضح وبلا أقنعة، هويته إنسانيته، وعلامته النفسيّة المميزة: الكرامة والشهامة.
في قصص وروايات غسّان: الفلسطيني أمام تحد، فإمّا الخروج من زمن (الوحل) واللجوء، والهزيمة، أو نفاية علي المزبلة إن هو ضلّ الطريق كما في (رجال في الشمس).
وأنا في بيروت كتبت في لحظة قهر وغضب وإدانة: احذروا عودة أبي الخيزران...
أبو الخيزران) هو السائق ـ القائد الخصي ـ الذي ضلل منكودي الحّظ ودفنهم في جوف الخزّان، والذين ماتوا اختناقاً، وألقي بجثثهم علي مزابل الكويت.
هل من جديد سيدخل شعبنا في الخزّان ليقوده رجال زمن الوحل، الرجال القّش، والمقنعون الذين بلا ملامح، الممسوحون عقولاً ونفوسا، والسفهاء الصلفون الردّاحون علي الفضائيات؟!.
هؤلاء المبدعون نستعيدهم كلمات وفنا لنواجه زمن الجهل، واللصوصيّة، دفاعا عن الرجال والبنادق، بنادق المقاتلين، لا القتلة والمتقاتلين، دفاعا عن (أم سعد) وكّل الأمهات الصابرات المضحيّات.
انتبهوا جميعاً !
شعبنا هو الذي أنجب هؤلاء: عبد الرحيم محمود، غسان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، إبراهيم طوقان، أبوسلمي، إحسان عبّاس، محمد علي الطاهر، أنيس صايغ، إسماعيل شموّط، رياض البندك، سلفادور عرنيطة، يوسف خاشو، إميل لاما..هل أضيف؟ الصفحة لا تتسع، والذاكرة تفيض بهؤلاء الذين أنجبهم شعب فلسطين، هؤلاء هم وجه شعبنا، وليس المقنّع وسفهاء الفضائيات والفساد...