أحدث الأخبار
الجمعة 17 أيار/مايو 2024
هل تغيير الثقافة شرط لحدوث التنمية؟

بقلم : خالد الحروب ... 21.7.07

شروط حدوث التنمية في مجتمع ما، أو دولة ما، أو منطقة ما، بالغة التعقيد والتداخل. وهي شروط حار فيها مفكرو العلوم الإجتماعية والسياسية. وكلما تقدمت أطروحة بنظرية ووصفة إن طبقت تحقق التقدم، جاء من يفندها بالشواهد التاريخية والتجارب المختلفة. هل الفاعلية الاقتصادية هي مفتاح التنمية؟ هل النظام السياسي هو محركها الأساس؟ هل الظرف التاريخي وعلاقة السيادة المحلية بالتدخل الخارحي هو العنصر الحاسم؟ هل الموقع الجغرافي والثروات الطبيعية هي الفيصل؟ هل الثقافة السائدة مساعدة أم معيقة لتنمية؟ ثم ما هي التنمية نفسها قبل كل شيء، وأي المجالات تشمل وأيها تستثني؟ تلك الأسئلة وغيرها كثير ليس هناك إجابات حاسمة عليه. السجالات الموجودة تُقدم محاولات إجابات ونقاشات ثرية وغنية أكثرها يصف أسباب عدم حدوث التنمية ربما ببراعة، لكن قليلها يطرح ما يبحث عنه الجميع "الوصفة التنموية الفعالة". لكن أكثر الطروحات خلافية في هذا الشأن هي أطروحة إشتراط التغيير الثقافي لإنطلاق ونجاح التنمية الشاملة.
وقبل التفصيل في ذلك من المفيد الإتفاق على تعريف ولو فضفاض لمعنى ومضمون التنمية. وهنا لنقل أن التنمية، ولغايات التأمل في هذه العجالة السريعة، هي الإندراج في عملية تراكمية تحسن من الظروف الاقتصادية والمعاشية والسياسية باضطراد للمجموعة البشرية المعنية (في دولة ما، أو منطقة ما). ويكون من النواتج المباشرة لهذه العملية إرتفاع مستوى المعيشة وانخفاض مستويات الفقر وتزايد الفاعلية الاقتصادية لهذه المجموعة وزيادة قدرتها على التنافس مع المجموعات الأخرى. من دون أن تكون هذه العملية تراكمية وتُرصد حلقاتها الزمنية على أساس أنها تبني إيجابياً وتطورياً على بعضها البعض فإن التنمية تكون مفقودة.
الأطروحة الثقافوية في تفسير عسر التنمية تقول إن ثقافات المجتمعات والبنية الفكرية والدينية لها هي التي تسهل أو تعسر حدوث التنمية. فبعض الثقافات متوائمة مع منطق الفاعلية الاقتصادية والتراكم الرأسمالي ومنفتحة على استيعاب التغيرات العالمية وتتبناها وتعيد انتاجها بشكل يدرجها في منحى تنموي ونهضوي صاعد. فيما ثقافات أخرى تطرح إعاقات ذاتية تجعل من تحقيق بعض جوانب التنمية، أو كلها، أمراً عصياً. ويُعرف بأن أطروحة ماكس فيبر حول "الأخلاق البروتستانية والرأسمالية" هي الأساس لهذا المنظور من التفكير. فهو يقول إن القيم التي جاءت بها البروتستانية (والكالفنية)، بثورتها الإصلاحية على تقاليد الكاثولكية الساكنة وغير الفاعلة، قدست قيم العمل، وقيم تعظيم الربح على أساس أنها قيم تعبدية، ونظرت للعامل نظرة طهورية فيما أسترذلت العجزة والقاعدين. لكن تلك الأطروحة تعرضت لكثير من النقد والتطوير على اساس أن تلك القيم ليست حصرية لا بالبروتستانية ولا بأي منظومة فكرية أو دينية محددة. إضافة إلى التجارب التنموية في النصف الثاني من القرن العشرين مثلاً، وخاصة نهوض اليابان وتقدم دول شرق آسيا (وكلها ذوات ثقافات وأديان غير بروتستانية) تدلل على أن مسألة التنمية تأخذ أبعاداً أكثر تعقيداً، ومن الصعب حصرها في البعد الثقافي.
من أحدث القراءات الاقتصادية المتحمسة لمركزة الثفافة في قلب تحليل عملية التنمية كتاب عالم الاقتصادات التنموية لورنس إي هاريسون "الحقيقة الليبرالية الأساسية: كيف يمكن أن تغير السياسة الثقافة وتحميها من نفسها" (lawrece eharrison زthe central. liberal trvth howpolitics can change aculture and save it from itseif 2006. في هذا الكتاب تقوم أطروحة هاريسون على أساس أن ثقافة المجتمع المعين هي التي تحدد في إحتمال نجاح أو فشل التنمية فيه. والثقافات برأيه تتنوع ردود أفعالها لجهة إنسجامها وقبولها وتشجيعها أو ترددها وخشيتها أو رفضها للتنمية. والنظرة للمال والربح والوقت والعمل والتمتع بالحياة تختلف من ثقافة إلى أخرى، وبالتالي ينعكس ذلك، وعند تطبيقه على نطاق المجتمع بأسره، على احتمالات وأمدية التنمية المقصودة. ويذهب هاريسون في الأطروحة بعيداً إلى درجة وضع مصفوفة تراتبية للثقافات بحسب قدرتها على توفير مناخ موائم ومسرع للتنمية. وهنا يصنف الثفاقة اليهودية في المرتبة الأولى، تليها الثفافة البروتستانية، ثم الثقافات الهندوسية والكونفوشسية، فيما يضع الثقافة الإسلامية والكاثوليكية والثقافات الأفريقية في قاع تلك المصفوفة.
تقترب هذه الأطروحة من حدود العنصرية الأنثروبولوجية هذا وإن كان هاريسون يؤكد في أكثر من موضع في كتابه على عدم عنصريته وعدم تفسيره للتخلف باللون أو الإثنية. لكن ما هو أهم، من ناحية جدلية، هو نقاش مضمون الأطروحة نفسها. والملاحظة الأولى هنا هي أن وضع الثقافات الهندوسية والكونفوشسية تالية للثقافة اليهودية-البروتستانية يجيء في ضوء التجربة التاريخية ونجاحات التنمية في اليابان وبعض آسيا ثم الصين، وهي النجاحات التي لم تحدث أيام ماكس فيبر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهذا يشير إلى أن الاقتصاد والنجاح الاقتصادي دفعا إلى تصنيف الثقافة البوذية والكونفوشسية بأنها داعمة للتنمية وليس العكس. أي أن هذه الثقافات كانت أيام فيبر معيقة للتنمية وأصبحت أيام هاريسون مساعدة لها.
والملاحظة الثانية، والتي تنطبق على تحليل فيبر وهاريسون معاً، هي أن حضارات وتجارة واقتصاد ما قبل نهوض رأسمالية أوروبا كانت في معظمها، إن لم يكن كلها، تقوم في فضاءات ثقافات وأديان متنوعة، آسيوية، متوسطية، أفريقية، هندية، الخ. وسواء انطبق كلياً أم جزئياً التعريف الحديث للتنمية على الإنتشار الاقتصادي والتجاري لتلك الحضارات وعولماتها ووصولها إلى آفاق واسعة، فإن الحقيقة التاريخية الاقتصادية كانت أكثر رسوخاً من التحليل الفيبري وأقرب من التحليل الماركسي. بمعنى آخر أن الحركة الاقتصادية وفعل التاريخ هو الذي يؤثر في الثقافة وليس العكس.
والملاحظة الثالثة متعلقة بعالم اليوم وتحولاته الاقتصادية والعولمية وانعكاساتها على الثقافات والمجتمعات، بما يناقض ولا يساير أطروحة هاريسون اللامساومة. فحركة الاقتصاد المعولم والمبادلات التجارية والمالية والتشابك متعدد الأطراف والتنافس على الأسواق وعلى تجويد المنتوجات هو العنصر الأهم في إستجابات المجتمعات الحالية، وتلك الإستجابات يلحقها تحولات ثقافية وتبدلات في التقاليد. ومرة أخرى فإن "غزو قيم الحداثة" لكثير من المجتمعات الآسيوية جاء محمولاً على الحركة الاقتصادية، وليس العكس. أي أن تلك الحركة لم تنتج عن "ثقافة محلية" عندها موقف متميز من التنمية. هذا مع الإشارة إلى أن الحديث عن "القيم الآسيوية" أو عن "الخصوصية اليابانية" حديث مبالغ فيه وأكثره رطانة دفاعية. والأمر نفسه ينطبق على معظم دول الخليج العربي التي حققت في العقدين الأخيرين مستويات تنمية متقدمة من دون أن تكون بروتستانية، بل مستفيدة من الثروات الطبيعية ونمط تعولم الاقتصاد الراهن.
الملاحظة الرابعة، وليست الأخيرة لكن ما تتيحه المساحة هنا، هي أن حشر إحتمالية حدوث التنمية في تراتبية ثقافوية مغلقة يتضمن حكماً بالإعدام عليها في المجتمعات ذات الثقافات "المضادة للتنمية"، بحسب ما ينطوي عليه تقسيم هاريسون. صحيح أن هناك دور للثقافة في مدى سرعة وايقاع حدوث بعض جوانب التنمية، لكنه يظل دوراً ثانوياً، وليس محدداً جوهرياً. الثقافة قد تعيق جانباً هنا أو جانباً هناك في العملية التنموية الشاملة، لكن تحت وطأة الحركة الاقتصادية وفاعليتها تجد هذه الثقافة نفسها مضطرة لأن تقدم تنازلات ولأن تتواءم وتعيد تشكيل ذاتها بحيث تتناغم ولا تصطدم مع حركة التاريخ. منطق التحول البطيء هذا، وإن كان يثير الإعصاب والحنق بسبب بطئه، هو في كل الأحوال أكثر واقعية من إشتراط تغيير الثقافة لإحداث التنمية.