أحدث الأخبار
الأحد 19 أيار/مايو 2024
مشاهدات شخصية في الصين: أزمة الهوية والثقافة!! (2)

بقلم : د.فيصل القاسم  ... 09.09.2012

رغم ترسخ النظام الرأسمالي في الغرب وتطوره الدائم على مدى عقود وعقود، إلا أنه مازال يعاني كثيراً في علاقته الظالمة مع المجتمعات الغربية، فما بالك في الصين التي انتقلت إلى الرأسمالية المتوحشة دون أن تمر في مراحل النضوج المطلوبة. لهذا تبدو الصين الحديثة كالغراب الذي حاول أن يقلد الحجلة في مشيتها، فبالغ، ثم نسي مشيته. فالازدهار الكبير الذي شهدته المدن الساحلية دون غيرها على مدى السنوات الماضية دفع ملايين القرويين الصينيين إلى الهجرة إلى تلك المدن، مما حرم الأرياف القريبة والبعيدة من أكثر من مائة مليون من سكانها سنوياً. وهذا يعني أن هناك عملية تفريغ متسارع للأرياف والمدن البعيدة لا أحد يستطيع أن يتنبأ بنتائجه الكارثية على البلاد لاحقاً. ولو ظل الوضع على حاله لتشوه وجه الصين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أكثر مما هو مشوه. فالانتقال من النظام الاشتراكي إلى الرأسمالي تم طبخه على عجل. ومما زاد الأمور سوءاً أن هذا التحول كان اقتصادياً بحتاً، ولم يرافقه أي تطور سياسي يواكب النقلة الاقتصادية، فبدت الصين برأس شيوعي وجسد رأسمالي مضحك، ومازالت تتخبط في إيجاد النموذج الذي يناسبها سياسياً وثقافياً.
لقد اتخذت الصين التنين رمزاً لها لفترة من الزمن كتعبير عن قوتها وشراستها، لكن افتتانها المفرط بالغرب جعلها تغير رموزها كما تغير ملابسها، فبعد أن وجدت أن التنين قد ينفـِّر الغرب، ويجعلها تبدو عدوانية في عيونه، رمت بالتنين جانباً، واستبدلته بالباندا ذلك الحيوان الوديع المسالم ذو اللونين الأبيض والأسود الجميل، مع العلم بأن ذلك الحيوان معروف أيضاً بغبائه وقلة حيلته وكسله، فهو يجلس دائماً ينتظر من يقدم له الطعام والشراب. كل ذلك من أجل التقرب من الغرب. بعبارة أخرى، فإن الصينيين لم يرسوا على بر حتى الآن فيما يخص طبيعة نظامهم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. وكان أجدى بهم أن يصنعوا مثالهم الخاص بهم بدل السعي المحموم لإرضاء الغرب على حساب ثقافتهم. والسؤال الذي يبرز هنا: هل تستطيع الصين أن تنافس الغرب على قيادة العالم إذا لم تتمكن حتى من بناء ثقافة خاصة بها تقود بها بلادها ومحيطها، ناهيك عن المعمورة؟
رغم التطبيل والتزمير للنموذج الصيني لدى بعض القومجيين واليسارجيين العرب المعادين للغرب، فإن الصين ليس لديها نموذج خاص بها، فنظامها الاقتصادي استنساخ فج ومفرط للنموذج الغربي. وإذا استثنينا الصين الداخلية التي مازالت تعيش في القرون الوسطى، فإن الصين الحديثة التي لا تشكل سوى عشرين بالمائة من البلاد ما هي سوى نسخة غربية فاقعة، فلم يبق في العاصمة بكين من معالم صينية صرفة سوى بضعة معابد ومقر الإمبراطور. أما ما عدا ذلك، فكل شيء في الصين يبدو غربياً إلى حد الجنون، اللباس والأزياء والمظهر العام للشعب، وشكل الأبنية والشوارع والإدارة. وبالتالي كيف للصين أن تقود العالم بثقافة الغرب ورموزه وشعاراته؟.
تحاول الصين منذ مدة نشر مراكزها الثقافية الكونفوشية الجديدة في أنحاء العالم لعلها تنجح في اجتذاب البلدان إلى حضارتها، لكنها فشلت حتى الآن فشلاً ذريعاً، لا بل إنها لم تستطع حتى في تعميم نموذجها الثقافي داخلياً وإقليمياً، فما بالك خارجياً. وربما يعود ذلك في أحد جوانبه إلى اللغة الصينية ذاتها، فهي لغة بلا أحرف، وتعتمد على الرموز، والصينيون أنفسهم يجدون صعوبة بالغة في الإلمام بها، فما بالك بالأجانب، فحتى عتاة الأكاديميين الصينيين لا يتقنون أكثر من أربعة آلاف رمز من لغتهم، مما يعرقل وصول الصينية إلى العالمية. ويرى بعض الخبراء أن اللغة الصينية أسهمت كثيراً في تخلف الصين والصينيين. ولا يغرنك النجاح الصيني في تقليد البضائع الغربية وتصنيع كل السلع، فهناك فرق كبير جداً بين أن تكون مقلداً وأن تكون مبتكراً، فبسبب اللغة عانى العقل الصيني كثيراً، كما يجادل أحد الدارسين. ولو طلبت مثلاً من النادل أو النادلة في مطعم ثلاث كؤوس من الكولا وواحداً من العصير وكوبين من الشاي لأوقعته أو أوقعتها في أزمة وحيرة، فهي تحتاج لوقت طويل كي تهضم الطلب وتنفذه، لكن ليس بسبب التخلف العقلي، بل بسبب صعوبة اللغة، كما يقول أحد الخبراء، فاللغة جعلت التفكير الصيني معقداً وبطيئاً. ولما سألت الخبير عن سر هذا التقدم الصيني الرهيب في مجال الصناعة والتصنيع، فقال: "الصينيون بارعون في التقليد، لا في الابتكار، فلو طلبت من خياط صيني مثلاً أن يخيط لك قميصاً بجيبين وخمسة أزرار وقبة دائرية لوقع في حيرة كبيرة، ولفشل في الوفاء بالتفاصيل المطلوبة. لكن لو أعطيته قميصاً، وطلبت منه أن يقلده بحذافيره لأخاط القميص في دقائق ببراعة كبيرة".
وربما لهذا السبب لم ينجح الصينيون حتى الآن في ابتكار نموذجهم الخاص بهم الذي يستطيعون من خلاله التغلغل في العالم وقيادته، كما فعل الأمريكيون من قبلهم. فبينما نجح النموذج الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً في غزو العالم والهيمنة عليه من أمريكا اللاتينية حتى آسيا ثقافياً واجتماعياً وفنياً وحتى على صعيد الأكل والشرب، من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل، أن ينجح الصينيون في تعميم نموذجهم، حسبما يرى بعض الدارسين. لهذا فإن حظوظهم في السيطرة والهيمنة عالمياً مازالت ضعيفة جداً.. يتبع