أحدث الأخبار
الأحد 05 أيار/مايو 2024
اللاجئات السوريات في لبنان صرخة وجود في فضاء العدم!!
بقلم : صادق أبو حامد ... 06.04.2014

"نحن مو هيك" وثائقي لكارول منصور:
عندما صدر الفيلم الوثائقي ‘نحن مو هيك’ عن اللاجئات السوريات في لبنان، لم تكن اللاجئة السورية مريم عبد القادر قد أشعلت قهرها أمام مفوضية اللاجئين في طرابلس، ولم تكن قد فارقت حياة لم تقبل ذلّها تاركة بصمة رفضها أطفالاً سيحملون الاحتقار للبشرية لأجيال قادمة. مريم عبد القادر لم تكن واحدة من بطلات فيلم كارول منصور اللاتي حملن حكايات لجوئهن ليسجلن أمام كاميرا المخرجة الفلسطينية اللبنانية واحدة من وثائق الظلم العلني. لكن قراءة الفيلم بين يدي مريم المحترقة بالقهر يضيف عدسة سوداء في النظر إلى مشهد اللجوء السوري.
أن تخسر الواقع وتمتلك الحكاية
من عفراء الفتاة التي ترسم حياتها كيوم لا غد له، وتسكن في شقة تلملم شيئاً من بعثرة اللجوء، إلى أم عمر وأم رائد تتسامران وتراقبان دورة الحياة الرتيبة في خيمة العراء، إلى سمر تخفي اسمها ووجهها عن المشاهد وتعبر الطرقات بهمّ يرزح ثقيلاً فوق ظهرها، إلى سهام تحاول إعادة ترتيب حكايتها وأفكارها وبناتها، لتخنقها مع كل محاولة القطعة الناقصة: زوجها الذي غيّبه رصاص النظام السوري دون مقدمات. أربع شخصيات يجمعهن الفيلم الذي يندد منذ مطلعه بحرب الرجال التي يدفع ثمنها الأطفال والنساء، ويبهرك بطلاقة السرد لديهن. على اختلاف الثقافة والتحصيل والبيئة تبدو اللاجئات في هذا الفيلم وقد خسرن كل ماراكمنه في البلاد، واكتسبن حرية التعبير. وكأن قوة الصدمة ووحشية الصراع الذي خرجن منه فتح أبواب الكلام لهن واستعدن ناصية اللسان، وكأن رواية تجربتهن باتت التحدي الأول بالنسبة إليهن. وكيف لهن أن يرضين بعد كل ما عشنه بأن تُسرق حكاياتهن لتحاك بعيداً عنهن بكلمات وأصوات الآخرين، أو أن تتسرب بين أصابع الأيام وكأنها لم تكن، فالموت الذي عشنه لا يترك فرصة للحياة إلا في نبض الحكاية، وامتلاك سردها.
ثلاث أمهات وصبية
تبدأ الحكاية بعفراء الباحثة عن عمل، وحياة جديدة. الفتاة الملوعة بشوق لا يستثني ملل الساعات الصامتة، تحمل قلعة حلب كذاكرة مضيئة، وتشعل رغبة الموسيقى والغناء. لا حماس يدفع أيامها إلى الأمام، لكن رفض الهزيمة يبدو قدراً بديلاً تنصاع له دون شعارات. بصحبة أخت وصديقة وصديق تبني عفراء عالمها الخاص لتحمي نفسها من الوحدة في مجتمع يبدو عصياً على التآلف. لا تطلق عفراء أحكاماً ضد المجتمع اللبناني، الذي يتحدث تعليق الفيلم عن عنصرية بعض أفراده، لكنها تعلم أن الحساسيات التي صنعها تاريخ النظام السوري في لبنان لا تترك فسحة لعلاقات بلا عقد.
بضع خيام في مهب الريح تشكل عالم أم عمر وأم رائد. حديثهما البسيط السلسل أشبه بقصيدة تشتكي دون بكاء. امرأتان تمدان بساط الرضا وتملآن أوقاتهما بالأطفال وبتأدية دور سيدات البيوت بعد دمار البيوت، وتعدان لمستقبل أقل ضيقاً بخيمة أفضل، وطعام أوفر للأولاد، ومرحاض نظيف. ذكرياتهما وهما الجارتان في السيدة زينب في ريف دمشق تتقلص إلى لوحة من التفاصيل الهانئة. تفاصيل الهدايا والأثاث الجديد بانتظار الولادة القادمة، الولادة التي سيكتب لها أن تقع في اللحظة اللاجئة، وتسجل حضيض ليالي الغربة الإجبارية.
وجع الأمومة يتحول إلى هاجس وجودي، وأرق عضال لدى سمر. اسم مستعار لأم حقيقية ‘تبلع الموس على الحدين’ كما تقول. منذ وافقت على خطبة ابنتيها لشابين لبنانيين، وهي لا تكف عن تقليب السؤال: هل أنقذتهما أم جنيت عليهما؟ وتغرق في تفصيل خير ما فعلت ثم تسارع في تأنيب نفسها للشر الذي قامت به. لكن سمر المشتاقة ليومياتها البسيطة تتمنى فقط أن تعود إلى الزبداني لتتحدث مع شحرور شرفتها. هي التي تغني لنا ولها عن ‘بدع الورد وجمال الورد’، تتمنى الموت في كل لحظة لكنها تتعوذ من الفكرة. فكيف لها أن تترك أبناءها في وحل المحنة!
ابنتا سهام أصغر عمراً، وأكبر هماً. لكنهما تختزلان المعنى والعالم بالنسبة إليها. سهام التي تسأل إن كانت الأمومة جزءاً من شخصيتها أم أن شخصيتها كتب عليها ألا تتحرك خارج الأمومة. فترة وحيدة كانت فيها سهام أنثى أكثر اتساعاً من الأمومة. ست سنوات هي عمر زواجها بغسان شهابي، العمر الذي مزقته رصاصة قناص في مخيم اليرموك لأنه كان يحاول إدخال بعض الخبز لأبناء مخيمه، فتلاشت حدائق الألوان، وصمتت نسائم الحب، وجفت جداول الجنة الخاطفة. هل كانت تلك الحياة القصيرة ترفاً زائداً في عين عدالة الكون تسأل سهام، وتغمض عينيها على ألم فاق طاقتها. ألمٌ بات يحميها من الصدمات القادمة، فلم يعد هناك مكان لوجع جديد بعد الذي كان. حتى عندما يوجعها استهتار فلسطينيي شاتيلا بألمها وبألم مخيم اليرموك، تبحث سهام عن مبرر لذلك بالوحدة الساحقة التي عاشها مخيم شاتيلا في قهره حتى فقد القدرة على التعاطف مع الآخرين. لكن الفلسطينية التي تجد مكانها في النشاط الاجتماعي، تستعيد مكانها بعملها المفضل، جاعلة منه في المنفى الجديد أرضاً لعائلتها الصغيرة.
لوحة عن معجزة الأمومة يسردها الفيلم بكلمات متخففة من الأبهة. فالأمهات هنّ الأمهات، قديسات مكللات بالحب والمسؤولية والعطاء والحنان والأنوثة. قديسات آخر ما يعنيهن التقديس وجزاء المقدَّس. في محنة اللجوء يتحولن إلى خيمة ولقمة وضحكة، يشربن الرمل في عمق الاختناق ويمنحن القبيلة اليتيمة تَمر الوجود.
السخرية من رداءة الحال لا تغادر خطاب اللاجئات. يصفن عذاب اللجوء والقائمة غير المنتهية للهموم الصغيرة والكبيرة، لكن لمعة الابتسامة حاضرة، ورنة الضحكة واضحة. شخصيات بلغت من البؤس ما تجاوز خيالهن القديم، فبات التهكم روح موقفهن من هذا العالم.
‘نحن مو هيك’ إنما هو اللجوء!
لا تكترث شخصيات الفيلم بالحديث عن الحرب وظروف الدمار والخوف التي أجبرتهن على الرحيل، فالرحيل نفسه بات سيد أيامهن الآن. كلمات عفراء القليلة عن الاعتقال في سوريا، وعن أصوات التعذيب والمعذبين، ودمار بيوت أم عمر وأم رائد وسمر، واغتيال زوج سهام، جميعها ترد في حميمية البوح، البوح الذي يصنع حكاية بذاته، ويوحي بهول ما يحدث في البلاد، وما دفعهن إلى غصّة اللجوء. لهذا لا تحتاج هذه الشخصيات إلى عناوين سياسية، أو إلى إحصائيات الموتى والجرحى والمعتقلين لتعلن علاقتها بالثورة وموقفها السياسي من الطاغية، فالجسد المثخن بالجراح لا يُسأل عن معاني الدم على جبهته!
بين مشاهد الفيلم، في الطريق من شخصية إلى أخرى، تحملنا الكاميرا لنمر بالمشردين من اللاجئين السوريين في شوارع المدن اللبنانية، في الحدائق العامة، على الأرصفة المزدحمة، وفي الأراضي الجرداء. عائلات، نساء، عجائز، أطفال يفترشون كل مساحة ممكنة بانتظار أمل ما، أمل قد لا يتجاوز فرصة الحياة بعد أن نجحوا في الهروب من معمعة الموت السهل. لكن فيلم ‘نحن مو هيك’ الذي يذكّر ابتداء من عنوانه بأن الصورة العلنية لتشرد اللجوء وفقره وعوزه وذله ليست من طبيعة اللاجئات، ولا هي تصف أي نساء هنّ وأي ثقافة ينتمين إليها، يترك الحرية لأصوات اللاجئات كي ترسم صورة أخرى لنساء يقفن ثابتات فوق أرض قلقة، وثقافة تحسن الحلم، وتحمل بصمت مسؤولية الاستمرار لهن ولعائلاتهن، جاعلات من محض وجودهن صفعة للطاغية إذ يتوهم أنه قادر على قتل شعبه.
يغرق اللاجئ في تفاصيل استعادة الوقوف. السكن والأكل والشرب والعلاقات والبدايات الجديدة، تفاصيل تستغرقه وتُغرق أصل الحكاية في دوامتها. تركض الشهور وراء السنين قبل أن يتاح للاجئ أن يعي في وجدانه معنى الاقتلاع، معنى أن يُكسر صخب المدينة، وترتجف طمأنينة القرية، معنى أن تنفرط العائلة والحارة ويتبعثر المجتمع الصغير. معنى أن ينقطع التسلسل الطبيعي للأيام والأحداث، للأفراح والأتراح. أن تصبح منتمياً إلى الـ’هناك’ وتبقى معلقاً في رياحه. ينشغل اللاجئ بصراع الحياة بمقوماتها الأولى، ولا ينظر إلى الأسفل، كي لا يرى، وليته لا يرى، جذوره المتدلية في الهواء.. كأرجل مشلولة..

1