أحدث الأخبار
الأربعاء 11 كانون أول/ديسمبر 2024
هل يمكن أن نشهد ثورات من الأعلى في العالم العربي؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 08.06.2024

لو نظرنا إلى كل الثورات المحلية التي اندلعت في القرن الماضي وبداية هذا القرن لوجدنا أنها كانت قليلة جداً، وقد مرت بأقل الخسائر، فحتى الثورة الإيرانية ضد حكم الشاه في الربع الأخير من القرن الماضي، اختلفنا أو اتفقنا معها، مرت من دون خسائر مادية وبشرية كبرى، فلم يتشرد الملايين من الشعب الإيراني، ولم ينهر الاقتصاد، ولم يمت مئات الألوف، ولم تُدمر المدن. وكذلك الأمر في أوروبا الشرقية، فلم تستمر الثورات لفترة طويلة، وانتهت بأقل الخسائر، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الأوروبية الدائرة في فلكه، انتقلت الدول الشيوعية سابقاً إلى النظام الرأسمالي بسلاسة عجيبة، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي بسهولة أعجب، وكأن شيئاً لم يحدث، وذلك لأن أمريكا وأوروبا الغربية دعمتا تلك الثورات وكانتا ترتبانها بطريقة منظمة منذ عقود وعقود. لكن الوضع اختلف تماماً مع الثورات العربية الأخيرة التي أتى بعضها على الأخضر واليابس كما في سوريا واليمن وليبيا. ورغم أن الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر ولبنان والعراق والسودان والجزائر، لم تنته بكوارث بشرية ومادية، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً، لا بل ازدادت الأوضاع في بعض البلدان سوءاً عما كانت عليه قبل الثورات. وبذلك تكون الثورات العربية دون غيرها على مدى حوالي قرن وربع من الزمان هي الأسوأ والأقل حظاً في تحقيق أهدافها، والأسباب طبعاً باتت معروفة للجميع، فبينما كان هناك مصلحة كبرى للغرب في إنجاح ثورات أوروبا الشرقية، فقد شكلت الثورات العربية خطراً كبيراً على المصالح الغربية في هذا الجزء الهام والحيوي من العالم، ولا ننسى أن الغرب منذ وعد بلفور (1917) ومؤتمر (كامبل بنرمان 1906) وهو يعمد إلى إبقاء هذه البقة المسماة الشرق الأوسط بؤرة توتر وقلاقل أولاً حفاظاً على أمن قاعدته المتقدمة إسرائيل، وثانياً للحفاظ على المصالح الغربية في منطقتنا بعد جلاء المستعمر الغربي عنها، حيث خرج الاستعمار لكنه ترك وراءه أنظمة مازالت تنفذ مشاريعه التخريبية حتى الآن. وعندما ثارت الشعوب على تلك الأنظمة الوظيفية العميلة، سارع الغرب إلى إفشال تلك الثورات وتحويلها وبالاً على شعوب المنطقة، ولم يساعد أبداً في انتشال الشعوب المسحوقة من ربقة الظلم والطغيان والاستبداد. فكيف للصياد أن يطلق النار على كلاب صيده التي تحقق كل مصالحه منذ عقود وعقود بممارسة كل أنواع القمع والقهر، والتخريب، والنهب، والسلب؟ ما العمل إذاً بعد فشل الثورات العربية وعدم وجود قيادات وطنية تريد النهوض ببلدانها وشعوبها؟
الوضع بصراحة ليس سوداوياً تماماً، فقد حققت بعض دول المنطقة قفزات كبيرة دون أن تطلق رصاصة أو تريق قطرة دم واحدة، وحتى الشعوب نفسها في بعض البلدان لم تثر، بل انتظرت حتى جاء المخلص من فوق لينتقل بالشعوب من عصر إلى عصر كما حدث في ماليزيا وتركيا. بعبارة أخرى، فإن الثورة الصامتة في تركيا مثلاً حدثت من الأعلى، بحيث تحولت البلاد خلال سنوات من دولة متخلفة يقودها العسكر، إلى دولة حديثة يحسب لها حساب، وقد أصبحت من أقوى عشرين اقتصاد في العالم. واستطاع مهاتير محمد في ماليزيا أيضاً أن يوّحد قوميات مختلفة ويصهرها في بوتقة واحدة، لتتحول البلاد في العقود الماضية إلى مضرب للمثل في التقدم والازدهار. وفي روسيا ظهر الرئيس بوتين بعد سنوات من القلاقل وعدم الاستقرار والانهيار ليقود بلاده في الاتجاه الصحيح، فحقق قفزات اقتصادية لا بأس بها، وجعل روسيا رقماً صعباً مرة أخرى، ليس فقط عسكرياً، بل أيضاً اقتصادياً لتصبح بلاده من العشرة الأول في العالم. وكذلك فعل الرئيس الرواندي بول كاغامي الذي انتشل بلاده من قاع الحرب الأهلية التي قضت على أكثر من مليون شخص وحوّلت البلاد إلى حطام، فغدت رواندا اليوم أيضاً مضرباً لمثل في الخروج من تحت الرماد. لكن هل هذا ممكن في بلادنا يا ترى، إذا ما علمنا أن رواندا وماليزيا مثلاً ليستا في هذا الجزء المنحوس من العالم المسمى الشرق الأوسط، وليستا أيضاً جارتين لإسرائيل، كما أن للغرب مصلحة في مساعدة تركيا على النهوض كعضو مهم في حلف الناتو، وكموقع استراتيجي عظيم من مصلحة أوروبا وأمريكا ألا يتحول إلى بؤرة صراعات ونزاعات وقلاقل. أما بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وشمال أفريقيا العربية فليس هناك مصلحة للغرب أن تنهض، لهذا تم إجهاض الثورة السودانية ودفع البلاد إلى صراع مدمر بين العسكر خدمة لمصالح خارجية لا تخفى على أحد. وحدث ولا حرج عن ليبيا التي باتت مرتعاً للصراعات الدولية طمعاً بثرواتها، وتحول العراق إلى مستعمرة إيرانية أمريكية مشتركة، وباتت سوريا مقسمة ومشرذمة فعلياً، ونصف شعبها بين مشرد ولاجئ، وثلاثة أرباع البلد مدمر، بينما يقبع لبنان في الحضيض. أما اليمن، فبات يحن إلى أيام الطغيان الخوالي بعد أن تسلط عليه القاصي والداني، وباتت أرضه وشعبه فريسة للجوع والقهر، والفقر، والنزاعات، والتقسيم. وحتى تونس والجزائر القريبتان من أوروبا، فمن سيئ إلى أسوأ.
هل مسموح للعرب يا ترى أن يشهدوا ثورات من فوق كما حدث في تركيا، وماليزيا، وروسيا، ورواندا؟ أيضاً المشهد ليس كله سوداوياً، فهناك تجارب عربية مبشرة، وخاصة في دول الخليج التي تتولى فيها القيادات عمليات التطوير والتحديث بهدوء وروية، ولو قارنت الأوضاع الخليجية ببقية الأوضاع العربية، لوجدت أن الخليج سُمح له مثلاً أن يشهد تحولات على بعض الأصعدة. ورغم فشل الثورات في بقية البلدان إلا أن بعضها على الأقل حقق بعض النجاحات على صعيد البنية التحتية والعمرانية والاستقرار، ونجا من تبعات الانتفاضات كمصر والمغرب، لهذا بات الأمل بعد هذا الإخفاق الكارثي للثورات العربية الشعبية، بات معقوداً على ثورات من الأعلى لإرضاء الشعوب وتحقيق بعض الأمن والازدهار، لكن نعود إلى السؤال الجوهري: هل مسموح لدول المنطقة وشعوبها أن تتطور وتتحسن أحوالها كما تريد فعلاً، أم إن ذلك يشكل خطراً على المصالح الغربية في المنطقة، وخاصة على إسرائيل، وبالتالي، سيبقى محكوماً علينا أن نرضى بالقليل القليل، أو أن نستمتع بالسيئ لأن القادم قد يكون أسوأ؟

1