أحدث الأخبار
الأربعاء 06 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
منجّمون أم باسم المخابرات ناطقون؟!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 21.09.2024

تزداد يوماً بعد يوم شعبية المنجّمات والمنجّمين (السياسيين) في منطقة الشرق الأوسط، وقد أصبح بعضهم وبعضهن نجوما ونجمات ساطعات على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وباتت الأوساط السياسية والشعبية تتابعهم وتهتم بكل ما تنطق به ألسنتهن وألسنتهم من توقعات، خاصة وأن معظم توقعاتهم وتوقعاتهن قد تحققت بشكل مذهل، فبات الناس يتساءلون: هل لهؤلاء العرّافين والعرّافات قدرات خارقة فعلاً تتوقع المستقبل السياسي للمنطقة والعالم وقادته، أم إن وراء الأكمة ما وراءها؟ والغريب في الأمر أن بعض العرّافين والعرّافات لا يبدون من النوع المتمرس وصاحب الخبرة في المجال السياسي المعقد والعميق، بل إن بعضهم لا يفهم ألف باء السياسة، ويبدو وهو يقرأ أو تقرأ المستقبل السياسي للمنطقة وكأنها تردد أو يردد ببغائياً ما كُتب له من توقعات لأحداث مقبلة دون أن يفهم تبعاتها وأبعادها الخطيرة. وهنا لا بد للمتابع أن يسأل: كيف يمكن لهؤلاء (البصارات) أن يتنبأن بأحداث كبرى وهن لا يفقهن شيئاً في المجال السياسي والاستراتيجي والأمني؟ كيف يستطعن أو يستطيعون أن يقرأوا المستقبل بهده الدقة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد أن نعود إلى مسلسل سوري شهير بعنوان «الولادة من الخاصرة» للكاتب الشهير والمبدع سامر رضوان الذي ألقى الضوء على مهنة التبصير السياسي عام ألفين وثلاثة عشر في المسلسل المذكور الذي لاقى شهرة واسعة، خاصة وأنه رسم ملامح تلك الفترة وما تلاها من أحداث ببراعة فائقة.
في أحد المشاهد نرى ضابط مخابرات سورياً كبيراً (أدى الدور بمهارة الفنان السوري عبد الحكيم قطيفان) نراه وهو يجلس مع فتاة بسيطة للغاية من خلفية اجتماعية بائسة لا تملك قوت يومها، ليقول لها: «ما رأيك أن تشتغلي منجمة وسنعطيك أول دفعة خمسة ملايين ليرة» فتفاجأت الفتاة البسيطة بالعرض، وبدا عليها الذهول، خاصة وأن المبلغ المعروض كان كبيراً جداً في ذلك الوقت، ثم قالت: «أنا كما تعلم فتاة (على قد حالي) ولا أفقه شيئاً بالتنجيم والتبصير، فكيف أصبح منجمة؟ فرد الضابط قائلاً: «لا تقلقي، فنحن سنزودك بكل المعلومات والتنبؤات والتوقعات، وما عليك سوى أن تقرئيها، ويجب أن تعلمي أنك ستصبحين مشهورة جداً في الأوساط الشعبية والسياسية على حد سواء، وسنخصص لك برنامجاً تلفزيونياً خاصاً في وقت الذروة وستتسابق القنوات على استضافتك والاهتمام بكل كلمة تقولينها». طبعاً فرحت الفتاة البسيطة بهذا العرض الخيالي، وقد بدت عليها كل علامات الاستغراب وعدم التصديق.
**قد يتساءل البعض: وهل مهمة المنجمين والمنجمات السياسيات هي فقط تحضير الجمهور لأحداث قادمة، أم إن لهم ولهن وظيفة أخرى؟
ومنذ ذلك المشهد في مسلسل «ولادة من الخاصرة» ونحن نشاهد ظهور منجمين ومنجمات بالطريقة نفسها التي شرحها ضابط المخابرات السورية للفتاة البسيطة. وقد نجح بعضهم وبعضهن نجاحاً باهراً تماماً كما وعد الضابط، وصرنا ننتظر توقعاتهن وتوقعاتهم بفارغ الصبر لأن معظم التوقعات تحقق فعلاً.
أليس من الغريب أن تتوقع إحدى المنجمات مثلاً قبل أشهر أن رئيساً سيموت في حادث سقوط طائرة؟ وفعلاً تحققت نبوءتها. أليس من المدهش أن يتوقع أحد المنجمين قبل أشهر ما حدث في لبنان من تفجير لأجهزة اتصالات قبل أيام فقط؟ شيء عجيب ومدهش فعلاً. لكن كما يقال، لو عرف السبب لبطل العجب، فالمنجمون كما عرفنا من المسلسل آنف الذكر لا يقدحون من رؤوسهم أبداً، بل هم فقط يقرأون ما تكتب لهم أجهزة مخابرات، فهي التي تخطط للأحداث المقبلة.
لكن قد يتساءل البعض: وهل مهمة المنجمين والمنجمات السياسيات هي فقط تحضير الجمهور لأحداث مقبلة، أم إن لهم ولهن وظيفة أخرى؟ والجواب طبعاً، فقد أصبح بعض العرافين والعرافات الشهيرات أدوات سياسية وإعلامية ونفسية للتأثير على الشارع والتلاعب بسيكولوجيته وتسييره في الاتجاه الذي ترغب به أجهزة الاستخبارات، وهي الحاكم الفعلي والمسيطر الأساسي على وسائل الإعلام والتوجيه والتعبئة واللعب بالعقول.
نعم ليس كل توقعات المنجمين والمنجمات تتحقق، لكن مع ذلك، فقد أصبح لهم ولهن تأثير كبير وخطير على الجماهير، وصار بإمكانهن وإمكانهم أن يقودوا الشارع ويتلاعبون به ويهدئونه ويحرضونه ويوجهونه ويقودونه كما تريد الأنظمة وأجهزتها تماماً. وقد لاحظنا في بعض الأحيان عندما يصبح الوضع المعيشي ضاغطاً جداً وقابلاً للانفجار في بعض البلدان يخرج علينا فجأة أحد المنجمين أو المنجمات ليقرأ بياناً مخابراتياً مفضوحاً يطمئن فيه الشعب بأن سعر الليرة مثلاً سينخفض قريباً وستنخفض معه الأسعار وستتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، فيتفاءل الشارع خيراً لأنه بات يثق بما يقوله المنجمون والمنجمات لأن بعض توقعاتهم وتوقعاتهن قد تحققت فعلاً. وفي أمثلة أخرى صار كثيرون يعلمون علم اليقين أن هذه المنجمة أو المنجم تابع لهذه الجهة أو تلك، وصار إحدى وسائل التحكم والسيطرة بيد هذا النظام أو ذاك. ولطالما نجح المنجمون والمنجمات في تغيير الرأي العام أو تهدئته أو توجيهه بالاتجاه المطلوب سياسياً. لا عجب إذاً أن الشارع والأوساط السياسية والإعلامية باتت تترقب وتهتم بكل ما يصدر عن المنجمين والمنجمات لأنه ليس تنجيماً بل هو توجهات وتوجيهات سياسية ومخابراتية محضة، وبالتالي، هل هم وهن منجمات ومنجمون فعلاً، أم باسم أجهزة الاستخبارات ناطقون؟

1