كلما استدعيت مصر لاتخاذ مواقف أكثر إيجابية أو حسما تجاه ما يجري في قطاع غزة، يخرج الإعلاميون المصريون للحديث بغضب أو سخرية عن هذه الدعوات ويعتبرونها محاولة لتوريط بلادهم في حرب مع (إسرائيل)، ويعزفون على وتر التضحية المصرية في القضايا العربية، وكأن مصر بلدٌ أضاع طريقه إلى المنطقة، أو عابر طريق وجد نفسه وسط مشاجرة في الشارع، والحقيقة، أن مصر هي الدولة المستهدفة أكثر من غيرها، وأن الرؤية الاستعمارية الكلاسيكية كانت ترى الوجود في فلسطين محطةً متقدمةً لإحداث نوع من السيطرة على مصر، ومصر وليس غيرها، هي البلد في محل الخصومة التاريخية، بل التناقض المركزي في تاريخية الأمة اليهودية، بوصفها نموذج المستقر مقابل المرتحل، أما فلسطين فهي، ضمن هذه المعادلة، حيز جغرافي تصادف أنه يمكن استثمار التاريخي والمقدس في تسويقه، ليكون الملاذ الأخير للسيطرة الاستعمارية الكلاسيكية، أو الحديثة، ليصف الرئيس الأمريكي أفضل استثمار أمريكي.
منطقة الاتصال بين البحرين الأبيض والأحمر، هي عقدة المواصلات في العالم القديم، والمنطقة التي يمكن لمن يسيطر عليها أن يضمن قدرة على الاستجابة لمعظم التحديات في العالم، وكلما ابتعدت عن هذا المركز القلق للتنافس في العالم فإن فرص تحقيق شيء من الاستقلال الوطني تصبح أكبر نسبيا، فإيران التي تندفع تجاه المنطقة للبحث عن حيز نفوذ، تحمل وراءها تحديات مقبلة من وسط آسيا، وفي وسط آسيا تحديات أخرى من الروس والصينيين، وهكذا، بمعنى أن الجميع يضغط وتصبح هذه المنطقة هي المنطقة التي تتحمل بشكل أو بآخر طبقات الضغط جميعها، أو قلب البصلة في وضع المصطلح في المعنى الاستراتيجي.
**الدولة (الإسرائيلية) في بعض زواياها استهداف مصر، وتعطيل فكرة مصر العظيمة، والفلسطينيون ضحايا لهذه الخطة العالمية التي لا يدرك المصريون أنهم عامل جوهري في وجودها وتطورها
كان نابليون بونابرت يحمل هذه التصورات وهو يندفع بأسطوله لاحتلال مصر مع نهاية القرن الثامن عشر، في خطوة كان يراها كفيلة بتفريغ السطوة البريطانية على بحار العالم من أي ميزة استراتيجية، ولكنه لم يدرك أن مصر هي الدولة الأسهل والأصعب في المنطقة، فمن الناحية العسكرية ليست مصر سوى شريط خصب ضيق حول نهر النيل، وليس ثمة غابات أو تضاريس جبلية مرهقة، ولكن مصر في المقابل، هي الدولة الأكثر قدرة على استجماع ذاتها، والتعافي من أزماتها، فالمصريون شعب يحمل طريقته الخاصة في التجانس، من خلال انتمائه لمفهوم (مصر) المحصن بالتاريخ والأسطورة، وعمقه الحضاري الممتد لآلاف السنين، وأمام هذه الدولة التي تمكنت من تحقيق كثافة سكانية كبيرة تجعل التعامل مع مدنها أمرا مكلفا للغاية، كانت السيطرة على المشرق الأوسطي، هي أحد الحلول لإبقاء مصر تحت تهديد وجودي مستمر، واستهلاكها من غير الاصطدام المباشر معها.
لم يكن ثيودور هرتزل ـ الأب المؤسس للصهيونية الحديثة ـ مقتنعا بأي أفضلية لفلسطين لتكون وطنا قوميا لليهود، فهو في مشروع أوغندا البريطانية (كينيا) يرى ظروفا موضوعيةً مواتيةً لوطن يهودي قومي مبكر، وفي خطة الأرجنتين يدرس الموارد الاقتصادية الكبيرة، ولكن الحركة انحازت لرغبة البريطانيين في تأسيس منصة متقدمة في المنطقة، يمكن من خلالها فرض النفوذ بطريقة غير مباشرة، وبطبيعة الحال لم تكن مصر وحدها مستهدفةً بذلك، ولكن لأن تركيبتها الجغرافية المغلفة بالصحراء، وطبيعة المصريين بوصفهم شعبا يحمل تجانسه الخاص، المتجاوز في جوهره لما هو ديني أو عرقي، فهي الأهم، إذ تكفي أزمة صغيرة لخلط الأوراق في سوريا والعراق، ليتدبر الإقليم من خلال تدخلاته، والعالم من خلال مزاعمه بوضع الأرضية اللازمة للتدخل والتلاعب في المشهد العام.
للأسف، لم تتوقف النخبة المصرية بكثير من الاهتمام أمام حادثة الرحيل المفجعة لأهم الباحثين الجغرافيين العرب، وهو الدكتور جمال حمدان، ولم يتمكن العسكريون الذين وجدوا أنفسهم في مرحلة مبكرة من العمر، وبغير خبرة أو تأهيل معرفي، يحكمون بلدا مثل مصر، من استيعاب جدليات أسئلة عصر التنوير القصير الذي شهدته مصر، وبحثها عن الهوية وعلاقتها مع العالم من حولها، وأخذت مصر المنكفئة على ذاتها تتوطد في تجاهل لحقيقة البعد الاستراتيجي الآمن المتوجب تحقيقه، فأصبحت قضية فلسطين تعبيرا عن فروسية فردانية لقائد مصري مثل جمال عبد الناصر، مع أنه كان يفترض أن يرتقي بها ليضعها في الوعي المصري، بوصفها تهديدا لوجودهم الذي يريدونه لأنفسهم، بمعنى أن يجعلها قضية مصرية وليست مجرد قضية تحدث على حدود مصر، لأن مصر ليست الدولة الحديثة بالمعنى الكامل، ولأن قدرها أن تحاول تخفيف الضغوط من حولها، من خلال بناء كتلة استراتيجية مؤثرة، وإلا ستتحول من قلب العالم إلى النقطة الهشة التي تتدافع حولها الدول المتنافسة لتحولها إلى مجرد حيز يجري الصراع عليه.
نبوءة حمدان كانت مرعبة ووضعت إسرائيل أول ملامحها، من خلال وجودها ككيان عدواني متوثب تجاه مصر، ومتطوع لمهاجمتها لمصلحة الاستعمار الكلاسيكي وبأوامره المباشرة في حرب السويس 1956، وكان ذلك بداية مشروع كبير لإعاقة مصر، حذّر منه جمال حمدان وهو يطلب من المصريين أن يستثمروا في مفهوم المنعة والتأثير، ليكتب صرخته الشهيرة: إن لم تحقق مصر محاولة قوة عظمى تسود المنطقة بأسرها، فسوف يتداعى عليها الجميع يوماً ما (كالقصعة!)، أعداء وأشقاء وأصدقاء، أقربين وبعيدين وأبعدين.
يوجد كثيرون من العرب ما زالوا مقتنعين بضرورة مصر، ومنهم حركة حماس التي تحدث عنها قبل فترة غير بعيدة موسى أبو مرزوق، ليطالبها بالخروج من دور الوسيط معلنا قدرتها على وقف المجازر في يوم واحد، ليصبح الرجل هدفا لحملة إعلامية ضارية في مصر، ويتهم بأنه يجرجر مصر للتورط في الحرب، ولكنه في الحقيقة، مثل كثيرين، كان يرى مصر بلدا عظيما، وللأسف لم يكن الإعلام المصري يوافقه الرأي أو التصور، وكأنه أصبح مستسلما لأن تتحول مصر إلى محطة قطارات للمشاريع المختلفة في المنطقة، تتفرج ولا تتفاعل، تتأثر ولا تؤثر، وهذا هو الدور غير اللائق بمصر معنويا، وغير المنتج بأي معنى مادي أو استراتيجي.
الدولة (الإسرائيلية) في أحد تجلياتها، وفي بعض زواياها، استهداف مصر، وتعطيل فكرة مصر العظيمة، والفلسطينيون ضحايا لهذه الخطة العالمية التي لا يدرك المصريون أنهم عامل جوهري في وجودها وتطورها، وأن الفلسطينيين في غزة وغيرها ربما لا يكونون سوى أضرار جانبية.
*كاتب أردني
هل تخلت مصر عن عمقها العربي؟
بقلم : سامح المحاريق ... 26.10.2024