أحدث الأخبار
الخميس 18 كانون أول/ديسمبر 2025
الاحتلال يحوّل النعمة إلى لعنة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 18.12.2025

تسخر قنوات من الإعلام الإسرائيلي، وتشمت بمئات الآلاف من أهالي قطاع غزّة، الذين أغرقت مياه الأمطار خيامهم، ويتمنى هذا الإعلام أن يزداد المطر كي يغرقهم أكثر وأكثر حتى يختفوا. المطر نعمة ينتظرها البشر، وحين يتأخّر هطوله يقلق الناس، ويخشون من العواقب، فيقيمون صلوات الاستسقاء، طلبا للغيث والرّحمة، والرّحمة تستعمل مجازاً للمطر.
في الذاكرة الشعبية، يُستقبل المطر بالأغاني والأهازيج. «شتّي يا دنيا تيزيد موسمنا ويحلا». ويغني الأطفال في الحارات «شتّي يا دنيا وزيدي بيتنا حديدي»، وهو تعبيرٌ عن الأمان تحت سقف وبين جدران بيت دافئ.
لكن ماذا لو كان البيتُ خيمةً؟ وليس خيمة الشعر البدوية! بل خيمة من قماش رقيق! ماذا إذا كان صاحب هذه الخيمة ومثله مئات الآلاف لم يجدوا مكاناً ينصبون فيه خيامهم سوى أرض منخفضة دفعهم الاحتلال إليها دفعاً؟ وماذا إذا كانت الرياح قوية فاقتلعت أوتادها؟
يحتار الناس: هل يبتهلون في دعاء لسقوط المطر كي ينقذوا أنفسهم من العطش، ويتطهّروا ويحصلوا على ماء كافٍ للغسل والطهو والطهارة وغيرها من ضروريات! أم يدعون الله أن يحبس المطر عنهم وعن خيامهم، لأنها عاجزة عن حمايتهم وحماية أطفالهم! وقد صار المطر خطرا مباشرا على حياتهم، وهو استمرارٌ للحرب التي لم يلتزم الاحتلال حتى الآن بوقف نيرانها.
*حين يموت إنسانٌ لأنّ خيمته لم تصمد أمام المطر، أو لأنّ جسده لم يصمد في مواجهة البرد فإن هذه الوفاة لا يمكن فصلها عن سياق الحرب، وهي ليست كارثة طبيعية
المطر في غزّة ليس حدثا مناخيا فحسب، بل هو حدث سياسي متعلق بما سبقه، ضمن منظومة حصار طويلة الأمد، تلتها حرب إبادة قتلت وجرحت مئات الآلاف من البشر، ومسحت مدنا عن وجه الأرض، ودمّرت البنى التحتية، مُعِدّة بهذا الأرض والطُرق والحارات بالضرورة لانحباس المياه ومن ثم للفيضانات، التي تحمل معها شتى أشكال وأصناف التلوّث، فالخطر ليس فقط في البرد والانغمار بالماء، بل أيضا بما يحمله هذا الماء من قاذورات وأمراض معدية. غزّة تعاني شُحّاً حاداً في المياه الصالحة للشرب، ومن المفترض أنّ المطر يحلّ هذه المعضلة، لكنّه يتحوّل إلى مصدر جديد للمعاناة، بل إلى كارثة، تضاف إلى الكوارث الكثيرة. أكثر من تسعين في المئة من مياه غزّة غير صالحة للشرب وفق تقارير أممية، فالمياه الجوفية ملوّثة، بسبب الحصار الطويل إياه، وبسبب مئات آلاف أطنان المتفجّرات التي نزلت فيها، وبسبب تعطل خطوط ومحطات الصرف الصحي، وبسبب تعطيل محطات التحلية، التي تعتمد على كهرباء غير مستقرة، لأنّها تحتاج إلى الوقود الذي يجري تزويده بانتظام، فيما تعرّضت البُنية التّحتية المائية إلى دمار هائل بفعل الحروب، لاسيّما الحرب الأخيرة التي رفع فيها قادة الاحتلال شعارهم الإجرامي «لا ماء، لا كهرباء، لا غذاء، ولا دواء». هي حصيلة مباشرة لحصار طويل يمنع التطوير، ويقيّد إدخال مختلف المواد للبناء والعمل والإصلاح، ويشلّ القدرة على التخطيط طويل الأمد، لذلك، حين تمطر السّماء، لا تُخزَّن المياه ولا تُدار، بل تتسرّب وتُهدر، وتتحوّل إلى سبب إضافي للمعاناة، رغم حاجة الناس الماسّة إليها. ولا يتوقّف الأمر عند حدود الخطر أو الضرر، بل يصل في بعض الحالات إلى الوفاة بسبب البرد، أو الأمراض التي يسببها التلوّث. تحوّل المطر إلى سبب مباشر لفقدان الأرواح. خيام تُقتلع، مياه تتسرّب إلى أماكن الإيواء التي غُمرت بالمياه، وأجسادٌ منهكة أصلًا من الجوع والبرد والمرض لا تقوى على التحمّل، خصوصا أجساد المرضى والعجزة والأطفال. هذه الوفيات لا تُسجَّل غالبا كضحايا حرب، ولا كضحايا قصف، بل تمرّ في تقارير مقتضبة بوصفها حوادث عَرَضية، أو كوارث طبيعية، غير أن حقيقتها أبعد من ذلك بكثير: إنها وفيات نتيجة قرارات سياسيّة بامتياز، فهي مبرمجة للوصول إلى هذه المرحلة ولم تكتمل بعد.
حين يموت إنسانٌ لأنّ خيمته لم تصمد أمام المطر، أو لأنّ جسده لم يصمد في مواجهة البرد والمياه الراكدة، كما حدث مع الطفل محمد خليل أبو الخير ابن الأسبوعين، أو بسبب فيروس سببه المياه الراكدة الملوثة، فإن هذه الوفاة لا يمكن فصلها عن سياق الحرب، وهي ليست كارثة طبيعية. إنها تتمة مباشرة لجرائم الحرب. ونتيجة حتمية لسياسة منع إعادة الإعمار، والفرض على الشّعب بأن يعيش في خيام، وحرمان الناس من أدوات الوقاية الأساسية، وحتى من خيام جديدة تكفي للأعداد الكبيرة. بهذا المعنى، فإن هذه الوفيات تُضاف مباشرة إلى سجل جرائم الحرب، لأنّها نتاج مباشر لسياسات الاحتلال، وليس لتقلّبات الطقس. الاحتلال الإسرائيلي يتحمّل المسؤولية الأساسية عن هذا الواقع، الاحتلال لا يتحكّم فقط في المعابر، بل يتحكم في قدرة غزّة على بناء شبكات حديثة وصيانة ما دُمّر. وفي كل جولة تصعيد، يُعاد تدمير ما تبقّى، لتعود غزة إلى نقطة أدنى من الصفر، في دورة محكمة وبتخطيط خبيث وإجرامي لإبقاء المكان في أزمة مزمنة. غير أن المسؤولية لا تكتمل من دون التوقف عند دور المجتمع الدولي. فغزّة ليست منطقة منكوبة بفعل الطبيعة، بل هي إقليم مدني خاضع لسيطرة قوة احتلال وفق تعريف القانون الدولي الإنساني. ومع ذلك، يصرّ النظام الدولي على التعامل مع أزماتها، ومنها الفيضانات وأزمة المياه، بوصفها «حالات طوارئ إنسانية»، لا نتائج سياسية للاحتلال والانتهاكات المستمرة. والمفارقة الأشد قسوة، أنّ العالم الذي خرجت فيه الملايين إلى الشوارع تضامنا مع قطاع غزة ضد جرائم الحرب ولوقف العدوان عليه، يبدو كأنّه لا يدرك أو لا يريد أن يدرك خطورة الفيضانات على سكان الخيام، كتتمة للحرب التي لم تنته بعد. حتى البعد الديني والاجتماعي لا يبقى بمنأى عن هذا الاختلال. ففي الصلوات يجد الأئمة في بلاد المسلمين أنفسهم حائرين أمام سؤال قاسٍ: هل يدعون للمطر، وهو حاجة حقيقية لشعب محاصر يتوق إلى الماء النظيف؟ وهو حاجة ذلك للناس البعيدين عن الحصار! أم يدعون لتوقّفه، تضامنا مع غزّة التي لا تتحمل مزيدا من الماء فوق ما حملت، وما زالت تحمل من قصف وخراب؟
في الخلاصة، غزة لا تعاني لأن المطر كثير، فالمطر خير، ولكنها تعاني لأنها ممنوعة من الاستعداد له. وهذا نتيجة لسياسة واضحة، إبقاء المكان مع سكانه في حالة مأساوية دائمة، سواء بالحرب المباشرة أو من خلال الحصار الطويل وتلويث الأرض وتخريبها، لإرغام الناس على التفكير بالرحيل، لأن المعاناة سوف تستمر وتلاحقهم في كل الأحوال. ما دام الاحتلال قائما، ستبقى نعمة المطر مهددة بالانقلاب إلى نقمة، والخير والرّحمة إلى شرّ وتوحُّش. المسؤولية يتحمّلها من دمّر البنية التحتية وحوّل المدن إلى ركام، ثم دفع الناس قسرا إلى العراء في أراض منخفضة بلا شبكات صرف ولا مواد عازلة، ومنع عنهم أبسط مستلزمات الوقاية من برد الشتاء وسيوله ومختلف التقنيات المساعدة في تصريف المياه واتقاء.

1