أحدث الأخبار
السبت 06 كانون أول/ديسمبر 2025
الفن كشهادة: ثلاث لوحات تروي غزة كما هي!!
بقلم : وردة الشنطي ... 06.12.2025

غزة : تيماء سلامة ولدت في غزة، حيث البحر يلامس أرصفة المدينة، وحيث تتسلل حياة الصيادين اليومية إلى القلب قبل العين.
منذ صغرها كانت تتعلم من كل موجة درسًا عن الصبر، ومن كل صباح درسًا عن الصمود، لتكتشف أن الفن ليس مجرد لون على لوحة، بل لغة تنبض بالحياة والذاكرة والمقاومة.
فعندما أتت الحرب، غادرت مدينتها القاسية، واستقرت في سلطنة عُمان، حاملة معها عبء المنفى وذكريات المكان الذي تركته خلفها. هنا، في المدن البعيدة عن غزة، ومن خلال شبكة ICORN بمؤسسة أسيلو في مدينة ديترويت، وجدت مساحة لتروي الألم والأمل، لتجعل من التجربة الفردية حكاية تتجاوز الذات.
في لوحاتها، يمتزج الرسم بالنحت، وتدخل الأقمشة والورق والخامات المختلفة، لتصبح كل مادة جسرًا يصل المشاهد إلى تجربة ملموسة، وكأن اللوحة نفسها تتحدث وتهمس. الفن عند تيماء متاح للجميع؛ تدعمه للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية باللمس لتفتح أبواب الخيال بلا قيود. ففي كل خط ولون، ينبض البحر، الأسرة الفلسطينية، والصمود، لتصبح اللوحات رحلة حية عبر الذاكرة والمكان، حيث يُحس الألم وتُروى القصة، ويظل حضور غزة حاضرًا دائمًا في كل تفصيلة، فلكل لوحة عنوان وحكاية.
مجاعة 24
لم تبدأ حكاية لوحة «مجاعة غزة 24» بفرشاة أو لون، بل بشعور ثقيل استقر في صدر الرسامة وهي تتابع مشاهد الجوع التي اجتاحت غزة خلال الحرب.
فكرة ظلت تطاردها كلما سمعت العبارة القديمة التي كان الغزيون يتداولونها بثقة: لا أحد يموت جوعًا. في تلك اللحظة، أدركت أن هذه الجملة لم تعد صالحة للنجاة، وأن سقوطها يستحق أن يُوثّق، لا كخبر عابر، بل كقصة تُروى وتُلمس وتُحسّ.
على لوحة بقياس 30×40، جمعت الفنانة بين النحت والرسم، لتخلق سطحًا غير مستوٍ، مليئًا بالنتوءات والشقوق، تمامًا مثل الحياة في غزة. فالمشهد ثابت، لكنك حين تقف أمامه تشعر أن الحركة لا تتوقف. تستطيع أن تسمع ضجيج الأواني الفارغة، وصراخ الأطفال، وهمسات التعب التي تتسرب من أفواه الكبار. الأجساد متلاصقة، الوجوه شاحبة، والعيون مشدودة نحو وعد صغير اسمه وجبة واحدة في اليوم، فتشعر دون إرادة منك برغبة جارفة في ملء تلك البطون الخاوية، وكأن اللوحة تطلب منك فعلًا لا نظرة.
وفي زمن الحرب، وصلت غزة إلى مرحلة شح غير مسبوق في المواد الغذائية. لم تعد الخيارات موجودة: معلبات منتهية الصلاحية، ووجبات محدودة تطهوها بعض الجهات الرسمية من العدس أو الأرز، ومعلبات البازلاء والفاصوليا. فيتجمع الناس من كل الأعمار، يصطفون ويتزاحمون، يحمل كل منهم أملًا هشًا أن تكون حصته كافية ليصمد يومًا آخر. غالبًا لا يكفي الطعام الجميع، وغالبًا يعود بعضهم بخيبة صامتة أثقل من الجوع نفسه. وغير أن الرسامة رفضت أن تبقى قصتها حبيسة المتفرجين دون إعاقة بصرية، صمّمت اللوحة لتكون قابلة للمس دعمًا للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، فصار الألم ملموسًا، يُقرأ بالأصابع كما يُقرأ بالعين. هكذا تحولت «مجاعة غزة 24» إلى قصة مصبوغة بالفن، لا تكتفي بسرد المجاعة، بل تجبرك على الشعور بها، وتضعك وجهًا لوجه مع حقيقة لم يعد ممكنًا تجاهلها.
صمود
لم تكن لوحة «صمود» مجرد صورة لامرأة تجلس على الأرض، بل اعتراف بصوت عالٍ أن القوة قد تسكن أبسط الأوضاع وأكثرها وجعًا. فعلى مساحة 20×30، وباستخدام تقنيات تجمع بين النحت والرسم على اللوحة، اختارت تيماء أن تروي حكاية المرأة الفلسطينية من زاوية المواجهة الصامتة، تلك التي لا تحتاج إلى صراخ لتُرى. ففي قلب المشهد، تجلس امرأة فلسطينية أمام الجنود وآلياتهم، جسدها ثابت، وملامحها مشدودة بين الألم والتحدي، كأنها جدار بشري يقف دون سلاح.
ودعت منزلها بعد أن حوّله القصف إلى غياب، ووجدت نفسها تفصل الذاكرة عن المكان. أبناؤها غابوا، وزوجها اعتُقل، لكنها لم تسمح للانكسار أن يكتمل. بيد تمسح دمعة تأبى السقوط، وبالأخرى تفترش الأرض، لا طلبًا للشفقة، بل إعلانًا واضحًا: أنا هنا. هذا الجلوس ليس استسلامًا، بل فعل تجذّر، كأن جسدها امتدّ في التراب ليقول إن القوة لا تحتاج إلى جدران، وإن ما يُهدم يمكن أن يُبنى من جديد.
فتعكس اللوحة المرأة الفلسطينية كأيقونة للتجذر وشحذ العزائم. امرأة تحولت من فرد منكوب إلى رمز جماعي. في حضورها تختصر سيرة أرض وأجيال، وتعيد تعريف الصمود بوصفه قدرة على الاستمرار، لا رغم الخسارة فقط، بل من داخلها. فالجنود في اللوحة يبدون عابري طريق، بينما هي ثابتة، متصلة بالأرض، أكبر من الآليات التي تحيط بها.
مسير نحو المجهول
تحمل لوحة «مسير إلى المجهول» ثقل حكاية لا تبدأ من لحظة الاعتقال، بل من سؤال أقدم وأقسى: ما الذنب؟ على مساحة 50×50، وباستخدام تقنيات النحت والرسم على اللوحة، تفتح الرسامة نافذة على مسار مفتوح النهاية، مسار لا يعرف صاحبه أين سيقوده، ولا متى، ولا إن كان سيعود أصلًا. إنها لوحة لا توثّق مشهدًا واحدًا، بل حالة تمتد في الزمن، اسمها الانتظار القسري.
ففي قلب اللوحة، يقف الفلسطيني عاريًا من أي اتهام واضح. ذنبه الوحيد، كما تقول اللوحة بصمتها القاسي، أنه فلسطيني. لم يرتكب جريمة، لم يُمنح فرصة للدفاع، لكن الطريق بات مرسومًا أمامه: سجن، تحقيق، مصير مجهول. قد يُحاكم، وقد لا يُحاكم. قد يُفرج عنه بعد أشهر، أو يبقى معتقلًا لسنوات، أو يُحكم عليه مدى الحياة دون أن يعرف لماذا. فالاحتمالات كلها حاضرة، واليقين الوحيد هو غياب العدالة. والمشهد مشبع بالفراغ، لا تفاصيل زائدة، ولا وعود. الضوء خافت، والخطوط حادة، تمنح الإحساس أن الجسد يسير بينما الروح معلّقة. فداخل هذا الطريق، لا طعام سوى كسرة خبز، ولا شيء من مقومات الحياة سوى الصبر. والزمن في اللوحة لا يتحرك إلى الأمام، بل يلتف حول نفسه، كزنزانة بلا جدران واضحة، لكنها خانقة بما يكفي.
فاختارت الفنانة النحت ليكون جزءًا من العمل، لتجعل القسوة ملموسة، والخشونة حاضرة تحت اليد. فالمسير هنا ليس رمزيًا فحسب، بل جسديًا، يُشعر المتلقي بثقل الخطوة وبالخوف المصاحب لكل حركة. هذا الطريق لا يخص فردًا واحدًا، بل يمثل آلاف القصص المتشابهة، حيث تصبح الهوية تهمة، والانتماء حكمًا جاهزًا.
فمسير إلى المجهول ليست لوحة عن السجن فقط، بل عن تحويل الإنسان إلى ملف مفتوح بلا تاريخ نهاية. هي قصة فلسطيني يسير لا لأنه اختار الطريق، بل لأن الطريق فُرض عليه. وفي صمت اللوحة، تتردد جملة واحدة كحكم لا يقبل الاستئناف: التهمة فلسطين، والحكم مدى الحياة. وفي نهاية هذه الرحلة مع أعمال تيماء سلامة، تتجلى اللوحات كأكثر من مجرد فن. فهي نوافذ على صمود الحياة الفلسطينية وأصواتها الخافتة، تهمس بالحكاية قبل أن تُرى. لكل لوحة عنوانها، ولكل ملمس قصة تُحسّ بالعين أو باليد، فتُصبح المشاهدة تجربة كاملة، تجمع بين الألم والأمل والإنسانية. من خلالها يلتقي الخيال بالواقع، وتتحول كل لوحة إلى رحلة تعكس فلسطين بصمودها وتاريخها وروحها، لتظل حكايات تيماء صدى خالدًا في القلب والعقل والوجدان.

1